Monday, April 2, 2007

نقد الأديان بين الرؤية والمخيلة ( تعقيباً على ردود كامل النجار ) 2 / 2





في تساؤلي حول مفهوم العقل الواعي لم يفهم كامل النجار الغرض من السؤال وربما لم أصغه بشكل واضح فعلاً ، إن التساؤل لم يكن عن توقيت ظهور هذا المفهوم وإنما عن حقيقته وحدوده ، بمعنى ما هي الممارسة التي يمكن أن نخضعها بشكل واضح ومتفق عليه بين البشر تحت مسمى العقل الواعي ، إن وعي الإنسان يمثل تراكم خبراته وتجاربه في استخدام الغريزة ، وهي مختلفة ما بين الشعوب والمناطق الجغرافية وهنا لا يمكننا أن نضع – بكل اطمئنان – فعل تحت مسمى العقل الواعي وننفي فعلاً آخر عنه ، وما يتصوره كامل النجار فعلاً ناتجاً عن العقل الواعي ، فيما يخص رأيه في القضية الفلسطينية على سبيل المثال ، سوف يعتبره الفلسطيني نوع من الخضوع لمالك القوة أي الهرب من المواجهة وهو أحد أجزاء العقل الغريزي كما ذكر كامل النجار في مقاله الأول : " فعندما عاش الإنسان في الغابة مع الحيوانات كان يتحكم فيه عقله الغريزي The subconscious الذي يجعل الحيوان يهرب أو يحارب " . فيما يخص ظهور طوائف كالمورمون والداوديين فقد لاحظ كامل النجار وقوعي في خطأ عندما ذكرت أن معلوماته حول نشأة المورمون خاطئة دون أن ألتفت إلى أنه ذكر ذات المعلومات في مقاله ، وأنا اعتذر له عن هذا السهو بلا أي مكابرة ، وإن كانت المشكلة الأساسية كانت في افتراضه عن قابلية المجتمعات الجنوبية في أمريكا لتقبل عقائد غريبة كعقائد المورمون عن نظيرتها الشمالية ، وكان ردي يعتمد على أن نشأة هذه الطائفة كانت شمالية وأول المؤمنين بها كانوا شماليين . إن خطأ كامل النجار في هذه الرؤية يرتبط مرة أخرى بتجاوزه على التجربة التاريخية ، فبغض النظر عن وضع الجنوب الأمريكي في تلك الفترة فإنه من المعروف عدم قدرة المجتمعات الإقطاعية ، كمجتمعات مزارعي القطن ، على تقبل أي معتقدات جديدة بسهولة بسبب ارتباط الإقطاع بوضع ديني يحقق له مصالحه الاقتصادية والاجتماعية وهو معني أكثر بترسيخ هذا الوضع وليس بتحريكه بما قد يسمح بوجود طوائف أخرى لا تخدم مصالحه ، في حين تستطيع المجتمعات المفتوحة أن تتقبل بلا مشاكل أي رؤى جديدة ، وهنا فإن من الغريب أن يفشل جوزيف سميث في تحقيق نجاحات في الشمال الرأسمالي القابل لهضم أي آراء ، ويتمكن من تحقيق نجاحات هشة في الجنوب الإقطاعي ، وهي نجاحات بالتأكيد لم تكن بين السود الذين تبغضهم هذه الطائفة كما ذكر كامل النجار وإنما انحصرت في إطار الإقطاعيين وأتباعهم من البيض مما يعني أنها لم تشكل خطورة على أوضاعهم ، في حين لا يمكن أن نعزي فشلها في الشمال لمجرد عدم معقولية أفكارها بالنسبة للسكان وإنما بالأساس لخروجها على العقائد الإنجيلية التقليدية التي تتجاوب مع الفكر الرأسمالي ، وإذن فإن عقلية مزارع القطن ليس لها تأثير كبير في هذا الصراع حيث يخضع الإيمان أو الرفض للأديان في أوساط الطبقات المسيطرة إلى مدى ما تحققه هذه الأديان من مصالح مع عدم تجاهل عنصر الإيمان لدى البعض . ومن الممكن استخدام ظهور الديانة البهائية كمثال معاكس حيث لم تشهد انتشارا كبيرا في العالم الإسلامي الذي كان خاضعاً للإقطاع ، في حين انتشرت بشكل موسع في أوروبا وأمريكا الرأسماليتان في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ، فما هو القانون الذي قبل الأمريكيون الشماليون بمقتضاه الطائفة البهائية في أوساطهم في حين رفضوا طائفة المورمون ؟ إن الأفكار البهائية (بغض النظر عن سماويتها من عدمه) تعبر بشكل واضح عن طموح البورجوازية الناشئة في العالم الإسلامي وبالتالي فلم تجد الكثير من التصادم أو الاختلاف مع ما هو سائد في الغرب في هذه المرحلة(1) . وحول شعائر كربلاء يرد كامل النجار على مقولتي حول رفض العديد من علماء الشيعة للتطبير بقوله : " وغريب أن يقول (كما يوافقه العديد من علماء الدين الشيعة كالسيد محمد حسين فضل الله). فالمعروف أن التطبير أكثر ما يمارس في العراق، وعندما يعوز السيد أحمد صبري أيجاد مثال من العراق يعطينا اسم السيد محمد حسين فضل الله من لبنان. وحسب علمي فليس هناك زعيم شيعي عراقي رفض التطبير غير (السيد محسن الأمين لعاملي (1371-1284هـ) الذي أبدى رأيه الاجتهادي بخلاف الرأي السائد في مسائلة عاطفية وهي مسألة التطيير (شق الرؤوس في يوم عاشوراء) حيث أفتى بحرمتها وقد تعرض اثر ذلك لأشرس حملة عدائية من الحوزة ومراجعها إلى حد اتهامه (بالزندقة) " . أولاً لابد من الإشارة مرة أخرى إلى ما يعانيه كامل النجار من عدم معرفة بواقع الطوائف والمذاهب الدينية في الشرق ، فالتطبير يمارس بشكل أكثر تطرفاً في مناطق أخرى غير العراق كالهند وباكستان على وجه الخصوص ، كما يمارس في الخليج ولبنان وإيران وحتى آسيا الوسطى بنفس الحجم . على أن كامل النجار في مقاله الأول تحدث عن الشيعة بصفة عامة ولم يشر من قريب أو بعيد بأن حديثه منحصر بما يحدث في العراق : " وهذا ما يحدث في المذهب الشيعي مثلاً . فلو أن مسلماًً سار في شوارع إنكلترا وصار يضرب نفسه بسلاسل من الحديد حتى يدمي جسمه، فسوف يقول عنه الناس إنه "ماسوشي" Masochist أو مجنون، ولكن عندما يسير مئات الأشخاص في كربلاء وعلى وجوههم وملابسهم تسيل الدماء من أثر ضربهم أنفسهم بالسلاسل، يقول الناس إنها شعائر الدين " . هذا بالإضافة إلى أنه ليس من الضروري أن يرتبط الشيعي العراقي بفتوى عالم مقيم في العراق ، والكثير من الشيعة العراقيين يرجعون في فتاواهم لعلماء دين غير عراقيين ، وعندما استشهدت بموقف السيد فضل الله ، والسيد الخامنئي ، فذلك يرجع لكونهما من المرجعيات الدينية التي تحظى بعدد ضخم من المقلدين في العراق وبالتالي فإن تأثيرهما لا يمكن تجاهله . أما موقف السيد محسن الأمين العاملي ، فالواقع أنه حظى بتأييد السيد أبو الحسن الموسوي الأصفهاني وكان يمثل المرجعية الكبرى لدى الشيعة في تلك الفترة ، كما أيد موقفه علماء آخرون كالشيخ عبد الكريم الجزائري ، والشيخ علي القمي ، والشيخ جعفر البديري في النجف، وفي البصرة أيده السيد مهدي القزويني ، وفي بغداد السيد هبة الدين الشهرستاني(2) ، ولاحقاً أيد نفس هذا الموقف مجتهدون آخرون لعل أهمهم الشهيد محمد باقر الصدر . إنني لم أدع في أي لحظة أن الغالبية من علماء الدين الشيعة يرفضون التطبير وإنما ذكرت أن العديد منهم يرفض هذه الممارسة ، وهذا حقيقي ولو أراد كامل النجار لائحة بأسماء الرافضين للتطبير من علماء الشيعة فمن السهل أن أفيده بها ، والكلام هنا ليس ملقى على عواهنه وإنما يعتمد على دراية بواقع طائفة كبيرة من المسلمين تعيش في الشرق الأوسط بالقرب من كامل النجار دون أن يدري عنها أي شيء . أما استيراد هذه الشعائر من أوروبا أثناء الحكم الصفوي ، فيمكن لكامل النجار أن يرجع لكتاب الشهيد علي شريعتي " التشيع العلوي والتشيع الصفوي "(3) ، وعموما يبدو أنه غير مهتم أساساً بالاطلاع على المسألة أو البحث فيها ولا يعدو مطالبته لي بالمصادر سوى محاولة لتسجيل نقاط في المواجهة التي يتخيلها ، فهو في مقدمة رده على هذه النقطة اتهمني بعدم الرجوع لأي مصدر وفي نهايتها يقول : " أما الممارسات نفسها سواء اقتبسها الصفويون من أوربا أم اخترعها الشيعة أنفسهم، فهي لم تنتشر إلا في بيئات دينية متشددة مما يدل على أن الدين يغسل الأدمغة " . فهو رغم احتماله كون هذه الممارسات طارئة على المجتمعات الشيعية في مرحلة متأخرة يصر بشكل متعسف على ربطها بالمعتقد الديني الذي يسعى لتحميله كل السلبيات الاجتماعية حتى تلك التي تصطدم به بوضوح ، وهنا فإن سلبيات هذه الممارسة لا تعزى للدين بقدر ما تعزى للأوضاع الاجتماعية المتدنية التي عاشتها إيران في المرحلة الصفوية والتي سمحت بانتشار مثل هذه الممارسات ، وعلى كامل النجار أن يوضح نظريته عن غسيل الدين للأدمغة بشكل أكثر تفصيلاً ، فإن من المفهوم أن يغسل الدين الأدمغة بما ينشره من معتقداته ، لكن كيف يغسل الأدمغة بما يرفضه من معتقدات طارئة ومدخولة عليه ؟ . وفي نهاية كلمته يتساءل كامل النجار : " ولا أدري أينا هو الدجال : الشخص الذي يكتب الحقيقة كما يراها جميع الناس، أم الشخص الذي يحاول نفي المُشاهد بدون أي دليل أو مصدر يقدمه لنا ؟ " . هنا ألفت نظر كامل النجار إلى أنني لم أكن في مجال كتابة بحث ، وعموماً فأنا أعده مستقبلاً بتحويل مقالاتي النقدية لأبحاث تاريخية ، على أن يراعي هو كتابة مصادره كذلك وخاصة فيما يتعلق بأرقامه الإحصائية . وحول ممارسة شعيرة التطبير في القاهرة ، وهذه المرة كان المصدر موجوداً ، لم يجد كامل النجار بداً من إبداء استغرابه على تواجد هذه الممارسة في مصر التي تركت التشيع عقب سقوط الدولة الفاطمية ، والواقع أنني أؤكد مرة أخرى أن شعيرة التطبير لم تتواجد في الأوساط الشيعية إلا في العصر الصفوي ولم تعرفها الدول الشيعية في التاريخ الإسلامي بما فيها الدولة الفاطمية ، وكانت مسيرات عاشوراء تقتصر على الندب ونعي الحسين(رض) ، وبديهي أن سقوط الدولة الفاطمية لم يؤد لسقوط التشيع كمذهب فقد ظل للشيعة تواجدا ملموساً في مصر طوال العصر المملوكي وكانوا يمثلون الغالبية في بعض المدن كأسوان وإسنا ، أما التطبير فقد انتشر في مصر على يد التجار الإيرانيين الذين تواجدوا في القاهرة وخاصة في حي الحسين ، وكانت شعائرهم في يوم عاشوراء تسمى في الأوساط المصرية بـ " زفة العجم " ، وقد أدى تواجدهم في مصر بكثافة لاعتناق بعض المصريين وخاصة من التجار للمذهب الشيعي . وحول المقارنة التي عقدتها بين فتوى الإمام الخميني وقيام الرئيس الأمريكي باتخاذ قرار ضرب اليابان بالقنابل الذرية ، يقول كامل النجار : " وليس هناك أي تساءل حول إلقاء أمريكا القنبلة الذرية على اليابان، فالكل متفقون أنه عمل غير عقلاني وغير إنساني، لكنه يظل قراراً سياسياً أتخذه رئيس أمريكي يخضع لمحاسبة شعبه له. وهذا بخلاف القرار الإلهي الذي يتخذه بالإنابة عنه الإمام الخميني أو السياستاني. وأنا شخصياً لا أعلم متى حرّم الإمام الخميني الأسلحة النووية، وأشك أنه حرّمها وإلا لما سعت إيران حثيثاً إلى حيازتها وما زالت تناكف المجتمع الدولي على حقها في تخصيب اليورانيم. فهل اتخذ حكام إيران قراراً يعارض فتوى الإمام الخميني؟ والأغرب من هذا أن الكاتب يدعي أن الإمام الخميني اعتمد على القرآن في تحريم الأسلحة النووية. فأي نص في القرآن اعتمد عليه الخميني؟ هل اعتمد على الآية التي تقول (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوكم وعدو الله) " . ومن الغريب أن يتحدث كامل النجار عن محاسبة الشعب الأمريكي لرئيسه الذي اتخذ هذا القرار في حين يعرف هو أن الشعب الأمريكي كان مؤيداً لهذا الأسلوب في إنهاء الحرب ، وأتساءل بالنسبة لكامل النجار إن كان رضا الشعب الأمريكي – الخاضع تماماً لسيطرة ما تمليه وسائل الإعلام - عن هذا التصرف يمثل تشريعاً له من وجهة نظره ؟ ومن المجافي للعدل أن يدعي كامل النجار أن كل من الخميني والسيستاني يتخذان القرارت نيابة عن الله ، في حين يدرك أن كل منهما مجتهدان في وسط حوزة علمية تحوي العديد من المخالفين لهما ، ورغم سيطرة الإمام الخميني على الدولة فهو لم يستطع ولم تستطع الدولة الإيرانية إقناع كل المجتهدين بنظرية ولاية الفقيه والتي مازال الكثير منهم يرفضها . أما فتوى الإمام الخميني ، فقد احتجت بها إيران في إثبات عدم سعيها لامتلاك السلاح النووي ونقلت وسائل الإعلام فحوى الفتوى عن المسئولين الإيرانيين ، وإيران – حسب تصريحات مسئوليها - لا تكافح في سبيل امتلاك السلاح النووي وإنما في سبيل الاحتفاظ بتكنولوجيتها النووية ، والتساؤل الحقيقي هو عن سر رفض الغرب امتلاك العالم الثالث لهذه التكنولوجيا وسعيه لاحتكارها ؟ إن كامل النجار وبطريقته الجدلية المغرقة في السطحية يرد على مقولتي بأن الإمام الخميني استدل بالقرآن على حرمة السلاح النووي بطرح تساؤل عن الآيات التي استدل بها ؟ وهل هي آية : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوكم وعدو الله " ؟ وقبل الإجابة على تساؤله لابد من لفت نظر كامل النجار أنه دون الآية بشكل غير صحيح وناقص : " وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ* وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "(الأنفال / 60 – 61) . ومن الواضح أن الغرض الأساسي من الآيات دفاعي ولا يهدف لإبادة المخالفين بقدر ما يهدف إلى ردعهم عن محاولة التخطيط للهجوم على المدينة ، وذلك بعكس ما تهدف إليه أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها الدول الغربية وهي لا تهدف فقط لمجرد الانتصار في معركة وإنما تهدف للإبادة الشاملة ، وعلى الرغم من أنني لا أعرف بالتحديد دلائل الإمام الخميني في تحريم الأسلحة النووية ، فمن المنطقي وهو رجل دين مسلم أن تكون فتاواه مقتبسة من القرآن ومن السنة النبوية أو ما ورد عن الأئمة العلويين . في رده على مناقشتي لما ذكر أنها عناصر مشتركة بين الأديان تحدث كامل النجار عن دفاعي عن الأديان ، والواقع أن دوافع مقالي لم تكن الدفاع عن الأديان ، رغم أنني أؤمن فعلا بأحدها ، وإنما نقد الأسلوب الذي استخدمه كامل النجار في مقاله عن طبيعة الأديان . تناول كامل النجار الموقف من والد النبي موسى(ع) حيث نقل من سفر الخروج الآية الأولى والثانية من الإصحاح الثاني : " وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي . فحبلت وولدت أبناً . ولما رأته أنه حسن خبأته ثلاثة أشهر " ، ورغم أن كلا من والدي موسى يعدا مجهولين سواء في التوراة أو القرآن كما ذكر كامل النجار ، وبالفعل لا يمكن لأي إنسان الجزم بمقدار ما عاشه والد موسى ، لكن حتى مع الافتراض بتواصل حياته لفترات طويلة فإنها لم تكن ستمثل تأثير ذا قيمة في حياة ابنه ، إن تطور حياة موسى كما تخبرنا به التوراة والقرآن الكريم يبرر سر ثانوية دورهما في حياته ، فقد ربي موسى في قصر الفرعون كأحد الأمراء ، وهو بالتالي لم يكن يتيماً من الوجهة الرسمية في الفترة الطويلة التي قضاها كأمير فرعوني . أما جوزيف سميث مؤسس المورمون فقد اعترف كامل النجار بكونه ليس يتيماً أو مجهول الأب لكنه تحدث عن عدم اهتمامه بالأفكار الدينية وليس له تأثير في تربية ابنه حيث يصل إلى أنه لا فرق بينه وبين اليتم ، ولا أعتقد أن كامل النجار يعني فعلا هذه التسوية بين اليتم وبين عدم التأثير في حياة الابن بقدر ما كان يحاول التخلص من الموقف ، خاصة أن والد جوزيف سميث كان أحد الشهود الثمانية بصحة تلقيه الصفائح الذهبية عن الملاك موروني بما ينفي فكرة عدم اهتمامه بالمشروع الديني لابنه : " لِيَكُنْ مَعْلُوماً لِجَمِيعِ الأُمَمِ وَالأَقْوَامِ وَالأَلْسِنَةِ وَالشُّعُوبِ الَّذِينَ سَيَتَسَلَّمُونَ هذَا السِّجِلَّ أَنَّ يوسف سمِيث الْمُتَرْجِمَ لِهذَا الْعَمَلِ قَدْ أَرَانَا الصَّفَائِحَ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا وَالَّتِي لَهَا مَظْهَرُ الذَّهَبِ؛ وَإِنَّنَا تَصَرَّفْنَا بِأيْدِينَا فِي كُلِّ الصَفَائِحِ الَّتِي تَرْجَمَهَا سمِيث الْمَذْكُورُ؛ كَمَا رَأَيْنَا النُّقُوشَ الْمَحْفُورَةَ وَكُلُّهَا لَهَا مَظْهَرُ عَمَلٍ قَدِيمٍ وَصِنَاعَةٍ عَجِيبَةٍ. وَنَشْهَدُ بِثِقَةٍ أَنَّ سمِيث الْمَذْكُورَ قَدْ أَرَانَا إِيَّاهَا لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَاهَا وَرَفَعْنَاهَا، كَمَا نَعْلَمُ بالتَّأْكِيدِ أَنَّ سمِيث الْمَذْكُورَ قَدْ حَصَلَ عَلَى الصَّفَائِحِ الَّتِي تَحَدَّثْنَا عَنْهَا. وَنَحْنُ نُعْطِي أَسْمَاءَنَا لِلْعَالَمِ لِنَشْهَدَ لِلْعَالَمِ بِمَا رَأَيْنَاهُ وَإِنَّنَا لاَ نَكْذِبُ وَاللهُ شُهِيدٌ بِذلِكَ. كريسْتيان وِيتْمَر ، جيكوب وِيتْمَر ، بيطر وِيتْمَر، الابن ، جون وِيتْمَر ، هَايْرَم بِيج ، يوسف سميث الأب ، هَايْرَم سميث ، صَمُوئِيل سميث "(4) . إلا أنني ألفت نظر كامل النجار أن الفقرة الأهم من حياة النبي في الكتب المقدسة هي التي تتعلق بمرحلة الدعوة ، وبالتالي فإن الأسرة ومرحلة الطفولة تبدو ثانوية تماماً فيما تنقله الكتب المقدسة من حياة النبي . فيما يخص ثراء علماء الدين ، فقد تحدث كامل النجار عن الفقراء الكاثوليك في المكسيك والبرازيل في حين تمتلك الكنيسة الكاثوليكية بلايين الدولارات ، ورغم أنني بالفعل لم أذهب إلى البرازيل أو المكسيك فأنا أصدقه لكن المشكلة هنا لا تتعلق بالكنيسة الكاثوليكية وحدها ، بالتأكيد هناك تحفظات على طريقة الكنيسة في إنفاق ما يتوفر لها من أموال ، لكن المشكلة تتجاوز الكنيسة إلى وضع اجتماعي غير عادل بالأساس في مناطق متعددة من العالم ، ففي كلا البلدين هناك سعي من قبل الرأسمال المدعوم من أمريكا لاحتكار الثروة الأمر الذي يحدث تفاوتاً هائلاً بين الطبقات الاجتماعية ، وليست الكنيسة فقط هي المطالبة بتحسين أوضاع الفقراء في أمريكا اللاتينية خاصة أنها ملتزمة تجاه بلايين من الكاثوليك في العالم ، وإنما تقع هذه المهمة على عاتق الدولة بالأساس في حين يعد دور الكنيسة تالياً له . وعلى الجانب الإسلامي وجه كامل النجار اتهامات للأغنياء المسلمين : " رجال المال يتبرعون للمرجعيات كنوع من التأمين على الحياة في الآخرة وربما لمكاسب دنيوية كذلك. الملياردير الأمريكي بل غيتس وضع بلايينه في مؤسسة خيرية تتبنى الصرف على الفقراء في جميع أنحاء العالم ومن كل المذاهب والأديان. لماذا لا يفعل الأغنياء المسلمون ذلك بدل الدفع للحسينيات التي لا تصرف، إذا صرفت، إلا على أتباع مذهبهم " . الواقع أن رجال المال في كل الديانات لا يهتمون كثيراً بأمر الآخرة وأؤيده فيما يخص المكاسب الدنيوية ، أما الأغنياء المسلمون – ويبدو أنه يقصد الشيعة على وجه الخصوص – فهم يدفعون الخمس من أرباح أموالهم عموما للمراجع ، حسب التقليد المتبع ، ولا علاقة للحسينيات بالموضوع ، وتقوم مكاتب المراجع بتوزيع الأخماس على الفقراء وبناء مؤسسات علاجية مجانية ومكتبات ورحلات للحج ... الخ ، وبديهي أن هذه الأموال تصرف على الفقراء الشيعة بالأساس ، رغم أنه لا مانع من إنفاقها على الفقراء من المذاهب والديانات الأخرى ، لكن لابد من توضيح أمرين ، أولاً أن الأغنياء ليسوا هم الأكثر حماسة في الالتزام بدفع ضريبة الخمس فيما يتبقى من الأرباح ، فالواقع أن هذه الضريبة تلقى حماساً أكبر لدى أبناء الطبقة الوسطى ، ثانياً أن المؤمنين الشيعة ليسوا مضطرين لدفع أموالهم إلى المراجع ولا يوجد نص ديني يفرض عليهم هذا الأسلوب في قضاء الفروض المالية . إن ما قصدته بالأساس ليس الدفاع عن الكنيسة الكاثوليكية ، ولا المرجعيات الدينية السنية أو الشيعية ، فهناك الكثير من الانتقادات الموجهة للطريقة التي تنفق بها الأموال الموجهة لهذه المرجعيات عموماً ، وإنما قصدت الإشارة إلى أن المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية لا تمارس عمليات النهب بالإكراه على المؤمنين كما تفعل القوى الكبرى العلمانية – كالولايات المتحدة على سبيل المثال – في سعيها لاحتكار الثروات ، وإذاً فما هو البديل الذي تقدمه العلمانية أو غيرها من الرؤى الرافضة للأديان ؟ . إن الثراء إذن ليس مشتركاً بين الأديان ، وإنما هو مشترك بين المؤسسات ، وأي مؤسسة تقام في أي مجتمع مهما كان توجهها إنما تهدف لدعم سيطرة طبقة حاكمة . في رده على موضوع تعدد زوجات الأنبياء ، خاصة النبي سليمان ، تساءل كامل النجار : " والنبي سليمان الذي عاش في مرحلة تاريخية سابقة لم يكن الرجل الوحيد الذي عاش في تلك الحقبة. لماذا لم يتزوج غيره ثلاثمائة زوجة كما تزوج هو. أما القول أنه تزوج كل هذا العدد من النساء لأن نفوذه قد أمتد في كل الشرق، قول لا يسنده أي منطق أو مصدر تاريخي. فملك فارس أمتد نفوذه أكثر مما امتد حكم سليمان لكنه لم يتزوج ثلاثمائة زوجة. وإمبراطور الروم كانت دولته أوسع من مملكة سليمان، ولم يتخذ ثلاثمائة زوجة رغم أنه اتخذ عدداً من المحظيات. وإذا كان اتساع رقعة النفوذ هو السبب، فما هو السبب في اتخاذ محمد أكثر من عشرين زوجة ونفوذه لم يتعدَ مكة والمدينة " . إنني بالتأكيد لا اعترف بمصداقية التوراة كنص تاريخي ، فعدد الـ 300 زوجة مبالغ فيه ، ككل ما ذكرته التوراة عموما عن سليمان سواء اتساع رقعة نفوذه أو عدد جيشه ، لكن هذا العدد من الزوجات يرتبط بنفوذ الملك ، وعندما قارن كامل النجار بين سليمان وغيره من الملوك تحدث عن الروم والفرس الذين كانوا غير متواجدين على الساحة في تلك الفترة ، لقد تزوج الملوك المعاصرين في آشور وبابل وميتاني بعدد هائل من الزوجات ، كما تزوج الفرعون رعمسيس الثاني بعدد ضخم من الزوجات بدليل عدد أبناؤه الذي تجاوز المائة وتزوج غيره من الفراعنة بأعداد أكبر أو أقل إذا ما تجاوزنا عن المحظيات ، إلا أنه لابد من توضيح أنه من بين كل زوجات الملك – في مصر – فإن الزوجة الملكية هي الوحيدة التي كان لابنها حق الجلوس على العرش كما أنها هي فقط التي يذكر اسمها مع اسم الملك ، وبالتالي فمعظم الزوجات الأخريات يكن في الغالب مجهولات ، أما محمد(ص)، فإن عدد زوجاته هو 11 زوجة وعندما توفي كان نفوذه السياسي يشمل كل شبه الجزيرة العربية بما فيها المناطق ذات الخلفية الحضارية كاليمن وعُمان والبحرين ، ولابد من ملاحظة أن القبلية كانت الوضع السائد في شبه الجزيرة ، وكانت كل قبيلة بمثابة دولة مستقلة . في موضوع اغتصاب الأطفال داخل الكنائس ، أبرز كامل النجار عدد هائل من حوادث وكلها في الغرب وبالتأكيد فإن هناك حوادث مماثلة بدرجة أكبر أو أقل في الشرق سواء في المؤسسات الدينية المسيحية أو الإسلامية ، ورغم ذلك فإن كامل النجار يؤكد على أن رجال الدين يخالفون ما يدعون إليه ، فكلا الديانتين المسيحية والإسلامية ترفض تعاليمهما الاغتصاب عموماً ، فما هي دوافع رجال الدين لمثل هذه الممارسات ؟ الإجابة ليست متعلقة بالدين في كل الأحوال وإنما تتعلق بكون المؤسسة الدينية هي في واقعها مجرد محاولة لإيجاد تفسيرات للدين تتفق مع مصالح السلطة ، وبالتالي فلا يتوقع كامل النجار أن يكون كل القائمون على هذه المؤسسة متدينين بالفعل أو حتى مؤمنين بدرجة أكبر من غيرهم ، ولا يمثل الدين بالنسبة لهم سوى كونه شكل من الوظائف له رونقه الخاص ، ووسيلة لكسب المال . أخيراً حول دور الإلهات الإناث ، تورط كامل النجار في عدة أقوال أطلقها بكل ثقة تشير إلى افتقاد واضح لأبسط المعلومات التاريخية . أولاً : أنكر كون الألهتين فينوس وأفروديت من آلهة الإغراء الجسدي ، وهنا لابد من توضيح أن فكرة الجمال والحب والإغراء الجسدي لم تكن منفصلة في هذه العهود ، وعلى سبيل المثال كانت الإلهة عشترت في بلاد الرافدين وكنعان هي آلهة الحب والخصب وبالتالي فقد كانت تنظم في معبدها طقوس الدعارة الدينية(5) ، وهناك آراء تاريخية لها وجاهتها تؤكد أن اليونان والرومان صاغوا تصورهم للإلهتين أفروديت وفينوس من نموذج عشترت ، وهي تشبه بدورها لحد كبير الإلهة المصرية إيزيس(6) ، وقد كانت فينوس بالفعل آلهة الشهوة والزواج والإخصاب عند الرومان أما أفردوديت فقد اعتبرها اليونانيون موجدة الدعارة(7) . ثانياً : تحدث كامل النجار عن أن الكهانة في السابق كانت في محصورة في نطاق النساء ، وهو ادعاء لا يمكن الجزم به ناهيك عن أنه لا علاقة له بحقيقة أن الآلهة التي أشار إليها هي من صناعة مؤسسة دينية يسيطر عليها الكهنة من الرجال ، والطقوس الدينية والأساطير التي وصلتنا عن هذه الآلهة مرتبطة بما يرغب المسيطرون على هذه المؤسسة في ترويجه ، أما ما كان يحدث في العصور الأسبق فهو في كل الأحوال بعيد عن الأدبيات التي وصلتنا بالفعل . ثالثاً : ادعى كامل النجار أن الآلهة في الجزيرة العربية كانت من الإناث حتى ظهور الإسلام، وهو ادعاء خاطئ تماماً ، إلا لو كان قصد كامل النجار هو الإشارة للغالبية من الآلهة ، وحتى على هذا الأساس فإنه لا يمكن له التحدث بمثل هذا الاطمئنان ، وعلى سبيل المثال في كتاب الأصنام لهشام بن محمد بن السائب ، عدد المؤلف عدد الأصنام التي كانت متداولة في الجزيرة العربية قبل الإسلام وكان منها 20 من الآلهة الذكور ، و 7 من الآلهة الإناث(8) . رابعاً : حول كون معظم إلهات الحرب من الإناث ، اتهمني كامل النجار بالكذب ، لكنه وبكل غرابة عدد إلهات الحرب في عدة حضارات وكن كلهن من الإناث ، ولا أملك سوى الشعور بالغرابة فعلاً من قيام كامل النجار بإثبات قولي واتهامي بالكذب في آن . أما ما ذكرته عن اكتشاف الإنسان أن اللبؤة أكثر شراسة من الأسد فقد كنت أشير إلى كون اللبؤة هي التي تتولى القيام بالصيد وهذا معروف بكل تأكيد ، وهو ما دفع المصري القديم على سبيل المثال لتصوير الإلهة " سخمت " بشكل لبؤة ، كما صورت الإلهة عشترت كذلك بهذا الشكل(9) .


على أن المشكلة لم تكن في علاقة حيوان اللبؤة بالشراسة وإنما في العلاقة بين الإلهات الإناث والحرب ، وهو ما لم يكن ليحدث لو لم يلاحظ الإنسان القديم فيما حوله من الطبيعة المحيطة ما يفيد وجود مثل هذه العلاقة ، فهذه الإلهات كسخمت وعنات وعشترت لا يتصفن بالشجاعة في الميثولوجيا القديمة وإنما بالتوحش والتعطش لدماء الرجال(10) .
حول المشاجرات والألفاظ النابية
في نقدي السابق اتهمت كامل النجار بالعجرفة والتعالي ، وقد وصف كامل النجار هذه الاتهامات بكونها ألفاظ نابية ، ولذلك فقد رأيت أن أتناول هذا الموضوع عقب انتهاء مناقشتي لتعقيبه . إن الملحوظة الأساسية في مقالات كامل النجار هي أسلوبه الذي يحرص على تجنب التواضع، ففي كلامه عن الإيمان بالأديان في هذا المقال يقول : " وليس هناك أي سبب منطقي يجعل أي شخص متعلم يؤمن بالأديان " ، وحول العلاقة بين الدين والجهل يقول : " وأما النقطة الثانية التي تقول إن الأديان لا تنتشر إلا في الأوساط الجاهلة، فهو الحقيقة بعينها " ، وحول ما ذكرته عن استعارة الصفويين لشعيرة التطبير من أوروبا يقول عن نفسه : " ولا أدري أينا هو الدجال: الشخص الذي يكتب الحقيقة كما يراها جميع الناس، أم الشخص الذي يحاول نفي المُشاهد بدون أي دليل أو مصدر يقدمه لنا ؟ " .
فمثل هذه الأقوال على سبيل المثال ماذا يمكنني أن أُطلق عليها من وجهة نظر كامل النجار ؟ وهي تتجاوز حتى على تقاليد التواضع العلمي في الكتابة ، فرؤيته هي الحقيقة بعينها ، وهو يكتب الحقيقة كما يراها جميع الناس ، بالإضافة إلى أنه لا يوجد سبب منطقي يجعل أي شخص متعلم يؤمن بالأديان ، والأمر هنا حتمي وليس مجرد وجهة نظر لدى كامل النجار ، فكلمات كالعجرفة والتعالي هي وصف للأسلوب الذي عرض به كامل النجار فكرته . أما اتهامي له بالدجل فهو ينبع بالتأكيد من تحميله للدين ممارسات اجتماعية بالأصل ووافدة في مرحلة متأخرة شهدت انحطاط الحضارة الإسلامية ، وإطلاقه لمقولة أن الأديان تغسل الأدمغة بناء على ممارسات اجتماعية متأخرة ، ولا أدري ما هو المصطلح الذي يمكنني استخدامه لوصف مثل هذه الممارسة التي كررها في رده أثناء تناوله لآيتين قرآنيتين استخدمهما بشكل مفرط في السوء ، ففي الآية : " الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " ، فقد أوردها كامل النجار على أساس أنها تشير لكل العرب ، وإذا كان كامل النجار قد أخطأ في فهم المراد من مصطلح الأعراب ، رغم أن كتب التفسير والتاريخ العربي القديم متاحة للجميع ، فإن اقتطاعه للآية من سياقها القرآني بحيث تبدو كحكم نهائي على الأعراب أو العرب لا يمكن حمله على حسن النية : " الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ* وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "( التوبة / 97 – 99 ) . وفي الآية : " وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ " أعاد استخدام نفس أسلوب قطع الآيات عن سياقهما القرآني والتاريخي . لقد أعلن في رده أنه يترفع عن اللجوء لنفس أسلوبي المتدني ، رغم أنه اتهمني بالمقابل بالخطرفة والدجل والإفلاس والكذب ، وإذا كانت الكلمات الثلاث الأولى تعد أوصاف في مقابل وصفي لأسلوبه بالعجرفة والتعالي والدجل، فإن الاتهام بالكذب هو سباب بلا شك . أخيراً إذن يبدو واضحاً أن كامل النجار لا يمتلك ثقافة حقيقية حول تاريخ وتراث الأديان أو الحضارات التي ظهرت في نطاقها ، كما لا يمتلك منهجاً محدداً في مشروعه لنقد الأديان ، بالإضافة إلى عدم موضوعيته وخاصة في التعامل مع الآيات القرآنية ومدلولاتها ، وعدم التواضع العلمي في لغته . إن وصفي لما كتبه كامل النجار بكونه مجرد مشاجرة ناتج بالأساس عن حالة التشوش التي عانى منها مقاله ، حيث استغرق في الحديث عن أشياء ظاهرية ولا تهدف سوى إلى توجيه شتائم للأديان كحالة ثراء رجال الدين ، وتعدد زوجات مؤسسي الأديان ، والفتاوى المتشددة ...الخ في حين تجاوز عن تساؤلات حقيقية حول الأديان ، والتي كان يجب أن يكون له رؤية حولها : لماذا نختلف حول تفسير النص الديني ؟ لماذا يعتقد الإنسان أنه من الضروري أن يجيب النص الديني عن كل تساؤلاته في كل الأزمنة رغم أنه قد لا يفعل ؟ هل النص الديني هو إنزال إلهي فقط كما في التوراة أم أنه أيضاً تجربة بشرية مؤيدة من الله كما في المسيحية ، أو أنه مكون من العنصرين كما في الإسلام ؟ والأهم هو التساؤل عن سبب حاجة الإنسان للدين من الأساس إلى درجة أن تتحول الرؤى والفلسفات المعادية للأديان إلى أديان بحد ذاتها ، كالبوذية والجينية في الهند ؟ مرة أخرى أنصح كامل النجار إذا ما أراد بالفعل أن يكتب نقد عن الأديان سواء السماوية أو غير السماوية ، وليس محاكمة للأديان ، فإن عليه أن يمتلك عنها ثقافة حقيقية ، عن طريق دراسة الخلفيات الحضارية لها ثم تطوراتها الاجتماعية ، العقائدية ، والسياسية ، والابتعاد عن الاستسهال ولغة الأحكام المطلقة والحتمية ، فهي أيضاً تدل على إفلاس كاتبها .
---------------
1 – شوقي أفندي رباني . قرن بديع . طبعة دار النشر البهائية في البرازيل . البرازيل 2002 . الفصل السادس عشر ص 294 – 308 .
2 – جعفر الشاخوري البحراني . مرجعية المرحلة وغبار التغيير . طبعة دار الأمير . ط 2 . بيروت 1998 . مقدمة الطبعة الثانية صفحة ص – ف .
3 – علي شريعتي . التشيع العلوي والتشيع الصفوي . ترجمة / حيدر مجيد . طبعة دار الأمير 2002 . ص 207 – 212 .
4 – موقع الملاك الطائر . فقرة / الكتب المقدسة لدى كنيسة يسوع المسيح المستعادة . www.arablds.net .
5 – سيبتينو موسكاتي . الحضارات السامية . ترجمة / السيد يعقوب . ط الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة 1997 . ص 51 .
6 – ول ديورانت . قصة الحضارة . ترجمة / زكي نجيب محمود ، محمد بدران . طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة 2001 . المجلد الأول الجزء الثاني . ص 215 .
7 – ول ديورانت . قصة الحضارة . نسخة كومبيوترية . موقع المفكرين . www.mofakren.com . الجزء 3 . ص 2640 ، 2953 .
8 – هشام بن محمد بن السائب الكلبي . الأصنام . تحقيق / أحمد زكي باشا . طبعة دار الكتب والوثائق القومية . ط 5 . القاهرة 2003 .
9 – ياروسلاف تشرني . الديانة المصرية القديمة . ترجمة / أحمد قدري . دار الشروق . القاهرة 1996 . ص 232 ، 234 .
10 – سبتينو موسكاتي . ص 101 ، ياروسلاف تشرني . ص 234 .

نقد الأديان بين الرؤية والمخيلة ( تعقيباً على ردود كامل النجار ) 1 / 2

هناك تساؤل لابد من طرحه بالفعل عقب قراءة رد كامل النجار على نقدي لمقاله عن طبيعة الأديان المنشور في إيلاف : هل يستخدم كامل النجار منهج ما يؤسس عليه هذا النقد ؟ كنت آمل فعلاً أن يفهم كامل النجار من النقد السابق عيوب الأسلوب الذي يستخدمه في نقده السطحي للأديان والذي تأكد لي أنه لا يقوم على أي ثقافة حقيقية بتراثها ولا خلفيات نشأتها وتطوراتها وتغيراتها العقائدية ، لكنه قفز على هذه الإشكاليات بكل بساطة مدعياً بأن : " أما خلفيات النشأة التي يتحدث عنها السيد أحمد صبري، فليست ذات قيمة فعلية إذ أن النشأة للأديان الثلاثة كانت متشابهة في أنها نزلت في منطقة جغرافية صغيرة محدودة لا تمثل من العالم المعروف يومها إلا جزءاً يسيراً جداً " . إن كامل النجار لا يفعل سوى اللجوء للحلول السهلة التي تمكنه من توجيه النقد للأديان بلا مشقة أو بذل الكثير من الجهد بما قد يؤدي لتعذر حصوله على نفس النتيجة التي توصل إليها بشكل ذهني بحت بعيد عن كل هذا الإزعاج الذي قد يسببه البحث . " نزلت اليهودية عندما كان بنو إسرائيل تائهين في صحراء سيناء ويعيشون في الخيام. ونزلت المسيحية في نفس المنطقة رغم أنها كانت وقتها تحت سيطرة الرومان المتقدمين حضارياً على سكان تلك البقعة من الأرض. ولم يأت عيسى رسولاً إلى الرومان المتحضرين نسبياً وإنما أتى إلى خراف إسرائيل الضالة. أما الإسلام فلم يأت لشمال الجزيرة الذي كان ينعم بحضارة وارفة في ذلك الوقت وكانت به جامعة من أول الجامعات التي عرفها الإنسان في القسطنطينية، ولم يأت إلى الفرس الذين كانت حضارتهم مضرب الأمثال العربية وكان النبي يقص عنها القصص إلى أهل مكة، وإنما جاء الإسلام إلى البدو الذين قال عنهم الله (إنما الأعراب أشد كفراً ونفاقاً). فليس هناك أي اختلاف في خلفيات الأديان الثلاثة. ونسبةً إلى صغر المساحة الجغرافية التي نزلت فيها الأديان الثلاثة كان من السهل عليهم الاقتباس من بعض " . وهنا لابد من القول بأن ملاحظة كامل النجار حول المنطقة الجغرافية التي نشأت فيها الأديان حقيقية ، إلا أن تجاوزه عن تطورات هذه الأديان ودراستها بشكل سليم لم يمكنه من تحقيق أي استفادة حقيقية من هذه الملاحظة ، فقد بدأت اليهودية كشريعة بالفعل أثناء وجود بني إسرائيل في سيناء لكنها شهدت عدة تطورات وتغيرات عقائدية وتشريعية سواء قبل السبي البابلي أو بعده، ولا تعبر التوراة المتواجدة الآن عن تراث مجموعة بشرية بدوية ولكنها تعبر عن تراث مجموعة تأثرت بشكل واضح بتراثيات مجاورة كثيرة ، وبالتالي فليس ثمة تواجد حقيقي الآن لما نزل في سيناء على المجموعة المستضعفة الهاربة من الاضطهاد ، وإنما أدت التطورات الاجتماعية والتاريخية لحدوث حركة تحول وتغيير وتطور كبيرة في الديانة اليهودية . أما المسيحية فليس صحيحاً أنها نشأت في منطقة ضعيفة حضارياً رغم ضعفها العسكري والسياسي ، فقد نشأت في كل من فلسطين ولبنان الحضارة الكنعانية والتي ظلت ذات تأثير ضخم على عادات وتقاليد سكانها ، كما كان للفكر والثقافة الهيلنستية تأثر واضح على سكان تلك المنطقة الذين خضعوا لفترات طويلة لحكم الدولة السلوقية ، وكل من الحضارتين الكنعانية والهيلنستية أكثر رقياً من تقاليد وأخلاقيات وثقافة الرومان الذين يرى كامل النجار أنهم كانوا متقدمين نسبياً ، ولو كان يشير للتقدم العسكري فهو محق بكل تأكيد ، إلا أنه سيرتكب خطئاً كبيراً لو كان مقصوده هو التقدم الحضاري بالمعنى الأخلاقي والإنساني وحتى العلمي والفلسفي، وهنا سأكتفي بالإشارة أن عقوبة الصلب كوسيلة تعذيب وحشية قبل الموت ، وعقوبة قتل العشر من الذكور عند الانتصار هي ابتكار روماني . بالنسبة للإسلام فهو لم ينشأ في منطقة بدوية وإن كانت ذات محيط صحراوي ، وثمة فارق ضخم بين العرب والأعراب أعتقد أن كل من يمتلك معرفة بالتراثيات العربية يعرفه يقول ابن منظور في لسان العرب : " فمن نزل البادية ، أو جاور البادين وظعن بظعنهم ، وانتوى بانتوائهم : فهم أعراب ؛ ومن نزل بلاد الريف واستوطن مدن والقرى العربية وغيرها ممن ينتمي إلى العرب : فهم عرب ، وإن لم يكونوا فصحاء "(1) . لقد كانت مكة من أهم المناطق التجارية العربية وقد أتاحت هذه المهنة للقرشيين الفرصة في الاطلاع على المنجزات الحضارية المجاورة الفارسية والبيزنطية وحتى العربية الشمالية والجنوبية ، وبالتالي فقد عرف القرشيين بكونهم أكثر رقياً حضارياً من القبائل العربية الأخرى، وفي المرحلة التالية من التاريخ الإسلامي قد شهد حالة الانتقال والاستقرار في منطقة يثرب وهي منطقة كانت تقوم على الزراعة ، وبالتالي فلا علاقة حقيقية بين البداوة والإسلام على الرغم من الضعف الحضاري الواضح للعرب مقارنة بغيرهم من الحضارات المعاصرة والناتج في الأساس عن عدم انخراطهم في وحدة سياسية . وهناك اختلاف آخر في التطورات الاجتماعية والسياسية التي شهدها أتباع كل دين ، فقد ظلت المسيحية لفترة طويلة بلا سلطة سياسية تحميها ، حتى حاول الإمبراطور الروماني قسطنطين استغلالها عقب قراره بتقسيم الإمبراطورية الرومانية ونقل عاصمته إلى القسطنطينية (بيزنطة) ومن ثم سعى لفرض المسيحية (الرؤية التي تخدم سلطته) على العالم الروماني(2) . أما اليهودية فقد استمرت لفترات طويلة خاضعة لمجتمع العشيرة رغم اختلاطها بالكنعانيين والعنصر الفلستي (من أصول كريتية في الغالب) وهما عنصران تميزا بتقدمهما الحضاري ، وعلى الرغم من ما تذكره التوراة من أحداث حول امتداد النفوذ السياسي للملك سليمان فإنه لا يوجد أي دليل تاريخي يؤيد هذه الادعاءات ، كما لا يوجد ما يؤيد الادعاء بأنه كانت هناك دولة بالمعنى المعروف للعبرانيين في فلسطين ويبدو أنهم عاشوا في هذا المكان مختلطين بشعوب أخرى تمت إليهم بصلة قربى (من الناحية اللغوية) ومن الممكن أن يكونوا قد حققوا سيطرة ما على بعض المدن(3) . بالنسبة للإسلام فقد كون وحدة سياسية بقيادة النبي(ص) في وقت مبكر من الدعوة ، وعند وفاته كانت هذه الوحدة تشمل كامل أراضي شبه الجزيرة العربية ، كما لم يمض الكثير من الأعوام حتى نجح خلفاؤه في الاستيلاء على الشام وبعض مناطق الشمال الإفريقي ، والقضاء على الأكاسرة في فارس وهو ما أتاح لهم السيطرة على طرق التجارة بين الغرب والشرق الأقصى ، فهل يتوقع كامل النجار أن تكون كل هذه الاختلافات والمتغيرات بلا أي قيمة أو تأثير حقيقي على طبيعة التساؤلات الدينية والفلسفية الناتجة عن هذا التطور وردود أفعالها وصور استغلال الدين في تدعيم السلطة السياسية والتي غالباً ما تكون غير مؤمنة بهذا الدين بشكل فعلي ؟ وعلى ذلك فهناك بالفعل اختلاف في خلفيات الديانات الثلاث ، وكذلك اختلاف في مسار التطور الاجتماعي والسياسي لكل دين ، وهو ما لا يمنع من وجود متشابهات ناتجة عن تشابه التراث الحضاري عموماً في المنطقة التي نشأت بها هذه الديانات . إن أهمية دراسة الخلفيات الاجتماعية للنشأة وتأثيرها في التطورات العقائدية لكل دين تنبع من قدرتها على كشف أشكال وأساليب التعامل مع نصوصه المقدسة وقياس ما هو حقيقي وما هو مضاف وما هو دخيل في تراثه الموجود وأشكال الاستغلال التي تلجأ إليها الدولة المسيطرة ومؤسساتها الدينية لهذه النصوص ، وبالتالي فلا قيمة تذكر لأي دراسة لا تضع في اعتبارها هذه المؤثرات . وبغض النظر عن سماوية الأديان أو عدم سماويتها فهذه الجزئية التي لا يمكن لأي باحث نفيها بشكل واثق - كما فعل كامل النجار في رده - أو حتى قبولها بشكل واثق لا تؤثر سواء في قدسية الدين لدى أتباعه ، أو في تعرض الدين عموما لعدة عوامل ومتغيرات كثيرة تؤدي في الغالب لتطورات في الرؤى العقائدية الخاصة به وحتى في ممارسات الأتباع ، إن ادعاء كامل النجار بأن هذه الأديان كلها دين واحد بناء على بعض الاقتباسات المتبادلة بينها هو حكم سطحي في الواقع فهناك اختلافات جوهرية واضحة بين الديانات الثلاث ، فعلى المثال تبدو التوراة كتأريخ لتراث وأحداث خاصة بالعشائر العبرانية وبشكل عنصري واضح ، أما في الإنجيل فإن هذه الحالة المنغلقة تبدو أكثر ضعفاً ناهيك عن كونها غير مؤثرة إطلاقاً في التراث المسيحي ، في حين يلاحظ أنها مرفوضة بوضوح في القرآن . إن التشريعات سواء كانت خاصة بكل دين أو متشابهة تنبع من المشكلات الاجتماعية التي يواجهها مجتمع النشأة لكل دين في مراحل تطوراته ، فهي إذن تخضع في جوهرها لتراكم التجربة والخبرة البشرية ، ولا يعني التلاقي ما بينها وبين تشريعات أخرى متشابهة سواء مع أديان سابقة أو مجتمع وثني لا إثبات مصدرها الإلهي ولا نفيه ، وهنا يجب أن أشير إلى أن تشريعات الحج على سبيل المثال لم تكن واحدة عند العرب الجاهليين وهي مختلفة بشكل واضح في الإسلام عن تشريعاته لدى العرب الوثنيين أو العرب الأحناف الذين لم يعتنقوا الإسلام، وهنا أنصح كامل النجار بالاطلاع على كتاب " الأصنام " لهشام بن محمد بن السائب الكلبي(4) للاطلاع على حجم الاختلافات بين العرب حتى في نداء التلبية والطواف وغيره من الشعائر . أما كتابه ( التشابه والاختلاف بين اليهودية والإسلام ) الذي استدل به فقد قرأته بالفعل على موقع " كتابات " ، كما أن له كتاباً آخر في نفس الموقع ( قراءة نقدية للإسلام ) وأعتقد أنهما يعانيان من نفس عيوب هذا المقال وربما أكتب نقداً لهما قريباً . في مناقشته حول المتشددين من أتباع الديانات أشار كامل النجار إلى افتقار نقدي له للأمانة العلمية على أساس أنه لم يقل أن التفسير الحقيقي للدين يكمن في آراء المتشددين ، والواقع أنني لم أدع أن كامل النجار قال هذه الكلمة نصاً وإنما نقلت ما فهمته وما يمكن أن يفهمه أي قارئ من عبارته والتي أجدني مضطراً لنقلها كاملة : " يزعم رجالات كل دين أن دينهم دينٌ حقيقي من عند الإله الواحد في السماء، وهو الدين الحق وما عداه باطل. ويزعم كل أهل دين كذلك أن إلههم إله رحيم غفور كريم. ولكن الأحداث التي شاهدناها أو قرأنا عنها تُثبت عكس ما ينادون به . وكل ما أُثيرت هذه المسألة يهب رجالات الدين للدفاع عن دينهم ويقولون إن القتل والدمار الذي حدث ويحدث باسم الدين ليس هو من عيوب أو قصور ذلك الدين بعينه وإنما يرجع إلى قصور فهم أتباع ذلك الدين الذين قتلوا ودمروا باسم الدين . ولكن عندما تصدر الفتاوى أو الأقوال أو الأفعال من رجال قضوا كل حياتهم منذ أيام طفولتهم في تعلّم ذلك الدين من المشايخ أو الحاخامات أو الأساقفة الذين درسوا أصول ذلك الدين في المعاهد الدينية مثل الأزهر، والمدارس الكنسية اليهودية أو المسيحية، كيف يجوز عقلاً أن نقول إنهم أخطئوا فهم ذلك الدين ؟ وإذا صدر بيان أو فتوى من عدد كبير من رجالات دينٍ بعينه ، هل يُعقل أن يكونوا قد أخطئوا فهم ذلك الدين ؟ " . وأعتقد أن النص واضح في تفسير سبب ما عرضته من فهم حول رأي كامل النجار ، مع توضيح أنه في مقاله كان أكثر مصداقية من رده ، حيث أورد أن فتوى قتل الأطفال الفلسطينيين أصدرها مجلس حاخامات الضفة الغربية ، في حين لم يذكر هذه الخصوصية في رده ، وهنا لابد من الإشارة إلى أن حاخامات اليهود في إيران رفضوا هذه الفتوى واتهموا الكيان الصهيونية باستغلال اليهودية لتحقيق مكاسب سياسية وارتكاب مذابح ضد الأبرياء ، كما أن هناك من رجال الدين اليهود من يرفض الكيان الصهيوني من الأساس ويتهمه بتزوير الكتاب المقدس ، وهنا يجب أن أشير إلى أن يهود الضفة ومعظمهم من المستوطنين من الطبيعي أن يكونوا أكثر تشدداً مع العرب بسبب وضعهم المذبذب والسيئ من الناحية المعيشية أو الأمنية، فوجودهم مرتبط إذن بالقضاء على المقاومة العربية لكيانهم ، ويبقى التساؤل مازال مطروحاً أمام كامل النجار حول هذا التعارض في الفتوى ما بين الطرفين كيف يمكننا أن نؤكد مدى صحة أي منهما في التعبير عن الديانة اليهودية ؟ إن كامل النجار في رده على هذه نقطة اختلاف الفتاوى بدا كطفل يلقي بالحجارة دون تمييز، فادعى أن الأزهر أصدر فتاوى ضد المسيحيين والبهائيين واليهود والشيعة ، وأفتى الشيعة ضد السنة – حسب ادعاؤه – وأفتى الوهابيون في السعودية ضد الشيعة والمسيحيين والبهائيين . وبالتأكيد هو محق في دعواه عن فتوى الوهابيين ضد أي مخالف لهم حتى في الإطار الوهابي ، وعن فتوى الأزهر ضد البهائيين كذلك ، ولكن ماذا عن الفتاوى المزعومة ضد المسيحيين والشيعة ؟ وماذا عن دعواه بوجود فتوى شيعية ضد السنة ؟ في هاتين الحالتين فإن كامل النجار لا يتعدى حالة التخمين ، فليس هناك أي فتوى شيعية بتكفير السنة ، كما لا توجد فتوى أزهرية ضد المسيحيين أو ضد الشيعة ولا تتعد مشاكل الطائفتين في مصر المواجهة مع السلطة السياسية . وهنا يجب طرح التساؤل عن هذا التباين في الفتوى لدى المؤسسات الرسمية ؟ فقد كان الصلح مع الكيان الصهيوني محرماً في عهد عبد الناصر ، في حين تحدث الجميع عن حلية إقامة سلام مع هذا الكيان في عهد السادات على خلفية وثيقة التعايش بين النبي(ص) واليهود في المدينة ، وفي الحالتين لم تكن الفتوى نابعة من وعي سياسي أو حتى إسقاط على سيرة النبي وإنما نبعت الفتوى من الخضوع لسيطرة السلطة السياسية التي حاولت استغلالها لتدعيم موقفها في مواجهة المعارضين . ويطرح كامل النجار تساؤلاً : " ثم حتى إذا افترضنا وجود فتاوى غير متشددة، فهذا يدل على أن النص الديني من الغموض بحيث يمكن تفسيره عدة تفاسير تناسب فهم رجالات الدين . ولكن إذا كانت الأديان من عند الله فإن الله لا بد كان يعلم أن رجالات الدين سوف يختلفون في تفسير النصوص ، فلماذا أنزل نصوصاً قابلة للتأويل ، بينما يصر رجالات القانون والدساتير على جعل النص القانوني واضحاً لا يقبل التأويل. هل رجالات القانون أذكى من الله في منع الاختلاف والتأويل؟ لا أظن ذلك. والجواب المنطقي لهذه الأسئلة هو أن الأديان ليست من عند الله " . إن مشكلة الاختلاف في تفسير النصوص تنتج في الغالب عقب وفاة المؤسس للدين (النبي) مما يعني أنها ليست مرتبطة بوجود أي غموض في النص بقدر ما ترتبط بحالة التنازع التي تنتج عن اختلاف المصالح بين أعضاء الجماعة الدينية الواحدة وهي غالباً خلافات طبقية حيث تسعى السلطة المسيطرة لتمييع تفسير النص وإيجاد تأويلات مبعثرة له كمقدمة لإكساب رؤيتها قدر من الشرعية ، وهي تستخدم في هذه المهمة مؤسسة دينية مستفيدة من الوضع وتابعة لها بشكل كامل ، وفي النطاق الإسلامي رصد بعض الأئمة العلويين مدى خطورة هذه الممارسات التي تمت بشكل كبير في العهدين الأموي والعباسي فأوصى أتباعه بالاعتماد على القرآن كمرجعية لقبول الأحاديث الواردة عن النبي(ص) بغض النظر عن السند ، وهو بالتأكيد مخالف لما يمارسه معظم رجال الدين الآن حيث يتم تفسير القرآن على مرجعية الحديث لا العكس ، حيث أن الأحاديث المنسوبة للنبي هي منتج السلطة في الغالب المعبر عن مصالحها . لقد أكد كامل النجار مرة أخرى مقولته بأن الدين لا ينتشر إلا في الأوساط الجاهلة معتبراً أنها " الحقيقة بعينها " مشيراً إلى : " وإذا نظرنا إلى الأماكن التي تسود فيها الأديان نجد أن جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية لهم نصيب الأسد من المتدينين. ولا يرجع هذا إلى أن سكان تلك البقاع لهم طبيعة تختلف عن طبيعة سكان القارة الأوربية، ولذلك اعتنقوا الأديان، إنما يرجع إلى جهلهم وتفشي الأمية بينهم واعتمادهم على السحر والشعوذة في تفسير ما يحيط بهم من ظواهر طبيعية وأمراض " . بالتأكيد هناك تفشي للأمية في بعض هذه المناطق التي أشار إليها كامل النجار ، لكن لابد له من الاعتراف بأن مناطق أخرى منها تحوي العدد الأكبر من المتدينين كما أن نسبة الأمية بها ضئيلة وتشهد نهوضاً اقتصادياً كبيراً كماليزيا ، تركيا (الأكثر تطرفاً في علمانيتها) ، وإيران ، لكن في كل الأحوال لابد من توضيح أن اللجوء للسحر والشعوذة ليس حكراً على هذه المناطق بل أنها تجد رواجاً ضخماً لدى الأوربيين والأمريكيين ، بالإضافة إلى ما تشهده أوروبا وأمريكا حالياً من الإقبال على اعتناق الديانات الشرقية كالبوذية والبهائية والديانة الفرعونية التي نشأت في أوروبا فقط ويقيم أتباعها طقوساً في منطقة الأهرام ، وذلك على الرغم من قلة نسبة الجهل في أوساطهم . لقد حاول الاتحاد السوفيتي بداية من فترة خضوعه لسيطرة جوزيف ستالين ممارسة أكبر قدر من الاضطهاد للمؤمنين ومورس فرض الإلحاد حتى في المناهج المدرسية ، لكن لم يؤد ذلك إلى نتائج تذكر وما أن تفكك الاتحاد السوفيتي حتى شهدت المساجد والكنائس عودة النشاط والحياة لها مرة أخرى سواء في الشطر الآسيوي أو في الشطر الأوروبي ، وهنا فإن التساؤل الأساسي الذي أعتقد أنه جدير باهتمام كامل النجار – وليقبله كمجرد اقتراح – هو : ما هو سر الاحتياج والاندفاع الإنساني إلى الدين ؟ فحسب التجربة السوفيتية وبعد عشرات السنين من فرض الإلحاد كان من المتوقع – في الجزء الأوروبي من الاتحاد على الأقل – أن لا يكون هناك أثر للأديان لكن هذه العودة النشطة للمعتقدات تفرض هذا التساؤل . وفي نطاق نفس الموضوع طرح كامل النجار استدلالاً آخر حيث ذكر بأن عدد الغير مؤمنين بالأديان يصل إلى 211 مليون تقريباً في أنحاء العالم كلهم تقريباً في أوروبا ، وأن 40 بالمائة من سكان انجلترا يقولون بأنهم لا دين لهم ، ألا يدل ذلك على أن الدين والجهل تؤمان ؟ وبغض النظر عن مدى مصداقية هذه الإحصائية فالواقع أن هذا الاستدلال غير مرتبط بالعلاقة ما بين الدين والجهل بقدر وجود علاقة واضحة بين الشرائح الاجتماعية التي تتمتع بالرفاهية الاقتصادية والاستهتار بالدين أو الميل لتبني الآراء المتطرفة دينياً وهو ما يلحظ حتى في الشرق ، على أنه من المجازفة أن يعتقد كامل النجار بأن كل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالأديان ينطلقون من نفس القاعدة الثقافية والفلسفية التي يتصورها ، ففي لقاء شخصي مع بلجيكيين من الـ 211 مليون فوجئت بأن رفضهما للأديان يقترن مع إيمان حقيقي بتأثير السحر والأفكار الغيبية التي ربما تكون مرفوضة من الأديان ذاتها ، ومع هذا التناقض غير المقبول فإن واقع هذين الشخصين – وهما بالتأكيد نموذج لمجموعة أكبر – لا يرتبط بأي حالة قلق أو تساؤلات فلسفية بقدر ما هو مرتبط بحالة مزاجية تنتشر بين الشرائح المرفهة عموماً ، كما أن انتشار الرؤى المتطرفة دينياً لدى أبناء هذه الشرائح لا يعدو كذلك أن يكون حالة مزاجية مقابلة سرعان ما يتم التحول عنها . وحول فتوى القرضاوي وكما كنت أتوقع فقد سعى لتأكيد مساواتها بفتوى مجلس الحاخامات في الضفة ، والادعاء بأن الحوار مع الكيان الصهيوني كما فعل السادات هو الحل كي يحصل الفلسطينيين على حقوقهم ، بحجة أن نضال الفلسطينيون لم يثمر سوى فقدانهم للتعاطف العالمي واحتلال بعض أراضيهم التي لم تكن محتلة ، وقد قرن هذا التصور بتشبيه بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال العربي لإسبانيا ، مع فارق وحيد من وجهة نظره أن العرب لا يمتلكون وعداً إلهياً باحتلال إسبانيا كما يمتلك اليهود في التوراة والقرآن الكريم . ومع اعتقادي بحسن نية كامل النجار في رده الانفعالي فلا أجد وصفاً لهذا الطرح سوى بأنه يفتقد لكلاً من الوعي السياسي والحقيقة التاريخية . قبل عام 1917 لم يكن هناك احتمال لوجود هذا الكيان الذي أقيم كي يتجمع فيه اليهود الأوربيين بالأساس كحل لمشكلتهم في أوروبا ، في مقابل أن تقوم هذه الدويلة بتنفيذ المخططات الإمبريالية للغرب في المنطقة ، وبالتالي فقد اندفعت الدول الأوربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتأييد هذا الكيان . إن فتوى القرضاوي تكتسب وجاهتها من منطلق أن كل مواطني هذا الكيان هم مغتصبون بالأساس وحصول الفلسطينيين المقيمين والمهجرين على حقوقهم يعتمد في الأساس الأول على عدم وجود الكيان الصهيوني ، ومن ناحية أخرى فإن التعاطف العالمي الذي يدعيه كامل النجار لا قيمة له في إثبات أو إلغاء حقوق الشعب الفلسطيني كما أنه لن يكون في يوم من الأيام منحازاً لهم مادامت هذه الدويلة تحقق للغرب الرأسمالي طموحاته في احتكار الثروات ، وهنا فلا يوجد حوار ستكون نتيجته عودة اليهود لأوطانهم الأصلية ، وعودة المهجرين واللاجئين الفلسطينيين لأراضيهم المغتصبة ، وهذه النتيجة بالتأكيد لا تدور في ذهن كامل النجار وإنما النتيجة الحقيقية هي تنازل الشعب الفلسطيني عن حقوق له في مقابل حصول الصهاينة على حقوق ليست لهم ، وهذا الحل لن يثير فقط سخريتي التي يرى كامل النجار أنها لا تضره . ويبقى كلام كامل النجار عن الوعد الإلهي في التوراة وفي القرآن لليهود بالحصول على فلسطين والذي لا يعدو أن يكون ترديد للدعاية الصهيونية وبعض الذين سعوا لتبرير ما فعله السادات سابقاً وما يفعله بعض السياسيين العرب من التواصل مع الكيان الصهيوني ، وهنا أذكر كامل النجار أن هذا الوعد لو كان له وجود فهو خاص ببني إسرائيل الذين فروا من اضطهاد الفرعوني وليس باليهود ، وعلى كامل النجار وأصحاب الرؤية الصهيونية التي اقتبس منهم هذا الزعم إثبات أن كل اليهود في العالم ترجع أنسابهم إلى بني إسرائيل ، أو أن بني إسرائيل قد التزموا باعتناق اليهودية فقط ولم يعتنق أي منهم الإسلام أو المسيحية ، مع توضيح أن ما ورد في القرآن الكريم لبني إسرائيل ليس وعداً بامتلاك أرض فلسطين بهذه الحدود المعروفة الآن ، وإنما أمر بالعيش في المنطقة التي عاشت بها أقوام تمت للعبرانيين بصلات قربى ثقافية ولغوية كالكنعانيين وغيرهم(5) ، أما الوعد الوارد في التوراة فهو ليس مقتصراً على أرض فلسطين فقط بالنسبة لبني إسرائيل وإنما يشمل مناطق أخرى من هذا العالم القديم وهو أيضاً يخص فقط أبناء إبراهيم وهؤلاء أكبر وأشمل من بني إسرائيل . وهنا نتساءل ما هو الفارق بين الاحتلال الإنجليزي لمصر أو للهند وبين وضع الكيان الصهيوني في فلسطين ؟ بالتأكيد لا فارق في الاستغلال ولكن هناك فارق في الأسلوب فإن الاحتلال الإنجليزي لمصر رغم أنه سمح بوجود أعداد ضخمة من الأجانب ومنحهم السيطرة على الثروات المصرية فإنه لم يقم بإحلالهم محل المصريين في مقابل تشريده للمصريين في أنحاء العالم أو ممارسة حرب إبادة ضد بعض المدن المصرية لإحلال سكان بريطانيين محلهم ، فهذه الممارسات لم يقم بها سوى الكيان الصهيوني والأمريكيين ، وهذا المثل ينطبق كذلك على وضع العرب والأمازيغ في إسبانيا ، فعلى الرغم من أن هذه البلاد كانت أصلاً محتلة من العنصر القوطي ، فلا يمكن وصف التواجد العربي / الأمازيغي بها على أنه فتح بقدر ما هو غزو قام به الإقطاع في العالم الإسلامي ضد الإقطاع المنافس في أوروبا للقضاء نهائياً على سعيه للسيطرة على شمال أفريقيا ، مع فارق أن فكرة الدولة القومية ذات الحدود الثابتة لم تكن موجودة في تلك الفترة ، بالإضافة أنه لا صحة لما ادعاه كامل النجار من قيام العرب بطرد السكان الأسبان للشمال ، فقد اعتنق الكثير من الأسبان الإسلام واشتهروا في التراث الإسلامي باسم " الصقالبة" وهي تسمية كانت تشمل المسلمين من أصول أوروبية كتمييز لهم عن المسلمين العرب والمسلمين الأمازيغ ، وثمة فارق بين وضع الاحتلال العربي لأسبانيا والاحتلال الغربي للعالم الثالث ، فلا يمكن لأي إنسان إنكار حقيقة أن أسبانيا كانت المنطقة الأكثر تطوراً ونهوضاً حضارياً في فترة الحكم العربي ، في مقابل الوضع المزري لكل الدول التي خضعت للاستعمار الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين . وحول الفروق ما بين القتل باسم الدين والقتل باسم الديمقراطية كان رد كامل النجار كالتالي: " ولكن عندما يتخذ السياسي قراراً بشن حرب على دولة أخرى، يستطيع مواطنوه أن ينتقدوا قراره ويعترضوا عليه ، وقد يضطرون السياسي إلى الاستقالة أو إلى فقدان مقعده في الانتخابات. والحرب السياسية معروف أنها لأسباب زيادة مصالح بلد معين أو زعيم معين، إنما الحرب باسم الدين، وخاصة الدين الإسلامي فهي حرب مقدسة باسم الله. ومن من المسلمين يستطيع أن ينتقد ما قرره الله وأجازه " . إن هذا الدفاع لكامل النجار ليس ناتجاً سوى عن مخيلته الشخصية وهو أيضاً يفتقر تماماً لأي مصداقية تاريخية ، فنحن لم نسمع أن الشعب الأمريكي قد أسقط الرئيس الأمريكي بسبب قنبلتي هيروشيما وناجازاكي ، ولم يسقط نيكسون من أجل حرب فيتنام وإنما بسبب فضيحة ووتر جيت الداخلية كما أن ضرب الأمريكيين لطائرة مدنية إيرانية أثناء حرب الخليج لم تؤد لسقوط الحزب الجمهوري في الانتخابات ، وهذا ليس فقط الوضع في أمريكا بل ربما يشمل أوروبا كذلك . إن السبب يرجع إلى طبيعة المقدس ذاته ، في الشرق فإن الله هو المقدس ولذلك تمارس النظم الديكتاتورية الاستغلال باسمه ، وفي الغرب الذي سعى لتهميش وضع الدين فإن الحرية الفردية والديمقراطية هي المقدس الأساسي بالنسبة للأوربيين وبالتالي فهي مصدر الاستغلال الحقيقي لإقناع دافع الضرائب بضرورة الحروب التدميرية ضد شعوب أخرى مستضعفة ، وتعمل الآلة الإعلامية الضخمة على الترويج لهذه الرؤية بحيث يتحول المقاوم إلى إرهابي ، والمعتدي إلى مُحرر ، أما الحرب باسم الدين الإسلامي فأرجو من كامل النجار أن يلاحظ أن أول من أشعل هكذا حروب هو الغرب نفسه الذي استغل الأديان لمواجهة الاتحاد السوفيتي ، وتحول بعض تجار المخدرات في أفغانستان إلى مجاهدين ، وتم القيام بحملات لتجنيد الشباب المسلم للجهاد في أفغانستان ضد الكفار الشيوعيين ، وهناك عدد من الأفلام الأمريكية التي أظهرتهم بصورة إيجابية في مقابل السوفييت المتميزين بالقسوة والعجرفة ، وسأتجاوز في العراق عن الأحذية الأمريكية التي يرتديها الإرهابيين المزعومين وأخطائهم في نطق الألفاظ القرآنية وحتى أخطائهم في تطبيق الحدود كما ينص المذهب الحنبلي والتي لا يمكن أن يقع فيها أي متطرف ، لكن بالتأكيد فقد لاقت هذه الممارسات اعتراض العديد من علماء الدين السُنة ، وهي بالتأكيد لاقت اعتراض من علماء الدين الشيعة ، فعلى أي أساس ارتكز كامل النجار في قوله أن الحرب باسم الإسلام لا يمكن لأي مسلم معارضتها ؟ وهذه المعارضات يفرضها على الواقع حقيقة التنوع في نطاق الدين سواء في تعدد المذاهب أو في المدارس المنتمية لكل مذهب على حدة كفيل بوجود مثل هذه المعارضة . إن هذا التطرف الساذج المنتشر في العالم الإسلامي حرضت عليه ودعمته القوى الغربية العلمانية كلها وسعت لنشره في كل أنحاء العالم الإسلامي كمحاولة للحيلولة دون انتشار الفكر اليساري ، ومن المذري الآن أن يتجاوز أمثال بوش وبلير للقول بأنهم في حرب ضد إرهاب قامت دولتيهما بصناعته . إن كامل النجار لم يجد أي مبرر لقيام الزعماء العلمانيين بنفس ممارسات الجماعات الدينية المتطرفة سوى أن هؤلاء الزعماء لا يتصرفون من منطلق العلمانية وإنما يخضعون لعقلهم الغريزي : " ولكن عندما تلجأ العلمانية السياسية إلى القتل، فتأكد أن على رأسها شخصاً يفكر بعقله الغريزي مثل جورج دبليو بوش الذي ينتمي إلى اليمين المسيحي من جماعة Born Again Christians الذين يعتقدون، دون إثبات، أنهم جاءوا لتجديد المسيحية. والرئيس بوش لا يستحي أن يقول إن الله أوحى إليه أن يغزو العراق. وصدام حسين العلماني قال إن الله أوحى إليه أن يغزو الكويت. والأيديولوجية التي تسكن العقل الغريزي لا يتحتم أن تكون أيديولوجية دينية، فمثلاً بول بوت عندما أباد الملايين في كومبوديا، لم يكن ينطلق من أيديولوجية دينية، ولكنه رغم ذلك كان يؤمن بأيديولوجية علمانية خولت له أن يبيد الملايين الذين لا ينتمون إلى أيديولوجيته. فشخص مثل هذا لا يمكن أن يكون فعل كل هذه الشنائع وهو يفكر بعقله الواعي. فالعقل الواعي يزن العمل وما ينتج عنه ثم يقرر إذا كانت النتائج تبرر العمل. بينما العقل الغريزي لا يفكر لأنه مبرمج مثل آلة الحاسوب التي تقوم بأكثر العمليات الحسابية تعقيداً ولكنها تفتقر إلى العقل. فالعلمانيون، وليس العلمانية، قد يرجعون إلى العقل الغريزي " . وإذن حسب هذه المقولة " والأيديولوجية التي تسكن العقل الغريزي لا يتحتم أن تكون أيديولوجية دينية " فإن العقل الغريزي لا يعبر عنه الدين فقط كما قال كامل النجار في مقاله الأول : " والأديان، التي بدأت مع نمو الجنس البشري عندما كنا أقرب إلى الحيوان من الإنسان، ما زالت تسكن وتتحكم في العقل الغريزي وتجعل منه قوة تتغلب على العقل الواعي في أغلب الأحيان، فهي كالأدوية أو الأفيون الذي يزيل تحكم العقل الواعي. فالأديان تُرجع الإنسان إلى أطواره الأولى " . ومن المثير للغرابة أيضاً أن يستخدم كامل النجار نفس أسلوب رجال الدين في تبرير الممارسات المتطرفة : " فالعلمانيون، وليس العلمانية، قد يرجعون إلى العقل الغريزي " . وهي بالضبط نفس صيغة التبرير لدى رجال الدين التي كانت محل انتقاده في المقال الأول : " وكل ما أُثيرت هذه المسألة يهب رجالات الدين للدفاع عن دينهم ويقولون إن القتل والدمار الذي حدث ويحدث باسم الدين ليس هو من عيوب أو قصور ذلك الدين بعينه وإنما يرجع إلى قصور فهم أتباع ذلك الدين الذين قتلوا ودمروا باسم الدين " . إن هذا التصور لكامل النجار لابد وأن يدفعه – حسب اعتقادي – إلى إعادة التفكير مرة أخرى في رؤيته ، فالمشكلة ليست في الدين أو الأيديولوجية وإنما في الاستغلال الذي يستخدم أي مقدس وأي أيديولوجية لتكريس مصالح طبقة مسيطرة ، ويمكن لكامل النجار أن يطلق على هذا الاستغلال اسم العقل الغريزي أو أي مسمى آخر ، ولكن لا مجال للكيل بمكيالين في هذه النقطة . إن أي سلطة سياسية هي معبر عن مصالح طبقة اجتماعية ، وفي إطار الصراع الاجتماعي بينها وبين الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى لن تتورع عن استخدام أي معتقد ديني أو سياسي في المواجهة حتى ولو بصورة تخالف جوهره . وعن ما ذكره كامل النجار حول المجموعة المسيحية التي ينتمي لها جورج دبليو بوش ، فلا أظن أن المسيحية هي الأرق الأساسي الذي يشغل ذهن الرئيس الأمريكي ، فالواقع أن هذه الحروب التي يخوضها وإن روجت إعلامياته لتبريرات مسيحية في المجتمع الأمريكي أو شعارات ديمقراطية في الغرب الأوروبي ، فإن أهدافها الأساسية هي السيطرة على ثروات المنطقة والقضاء على الدول المتمردة والخارجة على السياق الأمريكي ، وتأمين وضع الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط ، وكل هذه الدوافع لا علاقة لها بالمسيحية أو الديمقراطية ، كما لا يمكن التحدث عن علاقة حقيقية بين الكيان الصهيوني والدين اليهودي مع معرفة أن مؤسسي هذا الكيان التاريخيين ليسوا من المؤمنين .
وللحديث بقية
-------------------
1 – جواد علي . المفصل في تاريخ العرب . نسخة كومبيوترية . موقع مشكاة www.almeshkat.ne . الجزء الأول . ص 5 – 7 . وقد أشار الواحدي النيسابوري إلى أن هذه الآية نزلت في الأعاريب من أسد وغطفان . ( الواحدي النيسابوري . أسباب النزول . موقع مشكاة www.almeshkat.ne . سورة التوبة الآية 97 ) ، وفي لسان العرب رجل أعرابي بالألف ، إذا كان بدوياً ، صاحب نجعة وانتواء وارتياد للكلإ ، وتتبع لمساقط الغيث ، وسواء كان من العرب أو من مواليهم . ( ابن منظور . لسان العرب . موقع مشكاة www.almeshkat.ne . حرف العين . ص 586 ) .
2 – هـ .أ.ل. فيشر . تاريخ أوروبا في العصور الوسطى . ترجمة / محمد مصطفى زيادة ، السيد الباز العريني . ط دار المعارف بمصر . القاهرة 1950 . ص 5 – 9 .
3 – يرجى مراجعة مؤلفات د / فراس السواح على سبيل المثال : الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم . طبعة درا علاء الدين . طبعة 3 . دمشق 1997 . آرام دمشق وإسرائيل . طبعة دار علاء الدين . طبعة 1 . دمشق 1995 .
4 – هشام بن محمد بن السائب . الأصنام . تحقيق / أحمد زكي باشا . طبعة دار الكتب والوثائق القومية . القاهرة 2003 .
5 – محمد حسين فضل الله . من وحي القرآن . موقع بينات www.bayynat.org.lb . سورة التوبة / 97 ، سورة المائدة 21 .

نقد الأديان بين الرؤية والمخيلة ( نقد لمقال د / كامل النجار " في طبيعة الأديان " )

لا يبدو مقال كامل النجار أكثر من كونه مجرد محاولة للدخول في مشاجرة كلامية مع المؤمنين بالأديان على غرار مناظرات متكلمي العصور الوسطى مع فارق أساسي حيث تميز متكلمي هذه العصور – التي ربما يصفها البعض انطلاقاً من عجرفتهم الحضارية والعلمية بأنها متخلفة – باعتماد مناظراتهم على ثقافة حقيقية بالآخر ، فيما يلاحظ أن كامل النجار لا يتكلف حتى محاولة التظاهر بالاعتماد على أي ثقافة خاصة بالأديان التي تناولها في مقالة ، متجاوزاً هذه المشكلة باستخدام بعض مواقف اختارها بشكل انتقائي ملحوظ ، وحتى دون الإشارة إلى ارتباطها بخلفيات وواقع اجتماعي ضاغط لم يلتفت هو إليه . مع بدايات المقال يعلن كامل النجار بشكل صريح أن مشكلته هي (دين أو لا دين) وهو في هذا الإطار يرغب في أن تشمل ضرباته الأديان المصطلح عليها بكونها سماوية(*) فلا يجد غضاضة في جمعها داخل إطار واحد بغض النظر عن اختلاف خلفيات النشأة الاجتماعية والحضارية والبيئية وحتى التطور التاريخي والعقائدي لها ، ويتحدث عنها كشيء واحد يجب أن يكون متشابهاً حتى في تفاصيل حياة مؤسسيه ، وهنا يبدو مخلصاً جداً لعنوان مقاله " طبيعة الأديان " الذي يستطيع أي شخص أن يفهم منذ سطوره الأولى أن الغرض ليس البحث عن طبيعة الأديان كقواعد النشأة والتطور أو حالات التأثير المتبادل بينها(*) . في الجزء الأول من مقاله يطلق كامل النجار قاعدتين حتميتين ، الأولى : أن التفسير الحقيقي لكل دين يكمن في الآراء والتصرفات التي يقوم بها المتشددون من أتباعه ولا شيء آخر . الثانية : أن الأديان لا تنتشر إلا في الأوساط الجاهلة أو غير المثقفة . ومع ما في هاتين الحتميتين من استعلاء ومحاولة لاحتكار مفاهيم كالثقافة في نطاق الرافضين للأديان ، فإن كامل النجار لم يسع لتوضيح أي خلفيات لهذه الأحكام التي أطلقها بشكل دعائي وساخط . في حتميته الأولى يتساءل كامل النجار عن الكيفية التي يمكن بها تبرير الفتاوى المتشددة لرجال دين مسلمين ومسيحيين ويهود قضوا كل عمرهم في الدراسات الدينية بما لا يمكن معه اتهامهم بالقصور في فهم النص المقدس ، ومع وجاهة سؤاله فإنه لم يطرح تساؤل مقابل حول الفتاوى غير المتشددة والتي يطرحها علماء قضوا أعمارهم في الدراسات الدينية بما لا يمكن معه اتهامهم بالقصور في فهم النص المقدس !! إن كامل النجار لم يضع في اعتباره محاولات الاستغلال الاجتماعي والسياسي للنصوص المقدسة والتي كان يقوم بها على الدوام رجال دين خاضعين لسيطرة سلطة علمانية لا تقيم وزن حقيقي للدين، و لا يمكن هنا لكامل النجار أن ينعت الحكومة الصهيونية بكونها يهودية بالمعنى الإيماني للديانة اليهودية حتى لو كان رئيس وزرائها أولمرت يظهر أحياناً وهو يغطي رأسه بالكيبا ويقرأ نصوص التوراة التي لم يستطع إخفاء حقيقة اعتقاده بكونها مجرد نصوص تراث . ويبدو من المثير للغرابة فعلاً أن يضع كامل النجار فتوى حاخامات الضفة الغربية بمشروعية قتل الأطفال في لبنان في نفس مستوى فتوى الشيخ القرضاوي بحلية العمليات الاستشهادية في فلسطين والتي صاغها هو على أنها فتوى بحلية قتل اليهود في فلسطين بحيث يبدو اليهود كأقلية مستضعفة وليس كمجموعة بشرية مُستَعمرة لأراض تم طرد سكانها وقتلهم ، وعلى الرغم من أنني لست من المعجبين بالشيخ القرضاوي ، فإنني مضطر بكل أسف للانحياز إليه حيث أجد للمرة الأولى أن هناك موقفاً سلفياً أكثر عدلاً ومعقولية من مواقف أخرى ، واتساءل بالنسبة لكامل النجار عن الكيفية التي يقترحها على الفلسطينيين كي يتمكنوا من استعادة حقوقهم الإنسانية مع حصار العالم العلماني الغربي لهم وتأييده المطلق للكيان الصهيوني ، وأرجو فعلاً ألا تكون أفكار كدعوات الحوار والسلام هي ما يشير إليها كامل النجار كما يبدو من مقاله حيث لا يصبح الأمر مثيراً للاستغراب فقط وإنما مثير للسخرية كذلك . لقد حاول كامل النجار أن يبدو بصورة أكثر علمية في تحليله النفسي لأسباب صدور هذه الفتاوى، حيث اعتبر أن هذه الفتاوى تشابه إلى حد كبير ما كان يفعله موسى (ع) وحاخاماته ، وبالتالي فالعقل البشري لم يتقدم كثيراً من وجهة نظره ، واعتبر كامل النجار أن الأديان التي بدأت مع نمو الجنس البشري عندما كنا أقرب إلى الحيوان من الإنسان مازالت تسكن وتتحكم في العقل الغريزي وتجعل منه قوة تتغلب على العقل الواعي في أغلب الأحيان . وعلى الرغم من أن هذه الجزئية هي الفقرة الوحيدة التي ناقشها كامل النجار بشكل جيد ، رغم الخلاف معه فيها ، فإن استعلائه المبالغ فيه يوقعه في أخطاء ساذجة ، إن الأديان التي ينتقدها وهي المعروفة بـ (السماوية) لم تظهر في مرحلة التوحش والتي شهدت عدم التزام بأي سلوكيات اجتماعية محددة ، في حين تقوم الأديان على سلوكيات وانضباطات معينة الغرض منها تنظيم حالة التناقضات الموجودة في المجتمع ، وبالتالي فقد ظهرت هذه الديانات التوحيدية في مراحل التقدم الإنساني والحضاري سواء في الحضارة المصرية حيث ظهرت اليهودية في طورها الأول وتأثرت فيما بعد بحضارات أخرى كالبابلية والكنعانية ، أو في مرحلة سيطرة الحضارة الرومانية حيث ظهرت المسيحية ، أو في مرحلة التنافس بين الحضارتين البيزنطية المسيحية والفارسية الزرادشتية حيث ظهر الإسلام . إن ما يسعى كامل النجار للتأكيد عليه بشكل غير مباشر هو أن الحضارة الغربية العلمانية هما فقط ما يمكن أن يطلق عليهما مصطلح حضارة وثقافة بالمعنى الحقيقي مستدلاً على العنف الذي اتسمت به حركة تطور وصعود كل دين وما يشهده العالم الآن من عنف في الشرق الأوسط باسم الدين الإسلامي ، وهنا يجب أن نشير إلى أنه لا فارق جوهري بين القتل باسم الدين على يد جماعات مسلحة وبين القتل باسم الديمقراطية والعلمانية على يد دولة كبرى تستغل هذه التعبيرات لفرض مشروع احتكارها للنفوذ والثروات على العالم بالقوة ، وهنا لابد من توضيح أن هذه الجماعات المسلحة شهدت رعاية وتصفيقاً ضخماً من نفس هذه الدول العلمانية والديمقراطية أثناء مواجهتها للسوفييت في أفغانستان حيث كان يطلق عليها في تلك الفترة لقباً مخالفاً (المجاهدين الأفغان) وأنا لا أجد تسمية لهذا التحول في التعاطي الغربي العلماني مع هذه الجماعات سوى اسم الانتهازية السياسية . على الدكتور كامل النجار إذن أن يبحث عن مبرر آخر أكثر مصداقية لمثل هذه الفتاوى ، فالقتل لا يتخذ ذريعته من الأديان فقط وإنما من العلمانية والديمقراطية كذلك ، وهنا لا أعتقد أن كامل النجار يرى بأن العلمانية هي كذلك عودة للعقل الغريزي ، وبعيداً عن أن لهجة كامل النجار والذي يسعى فيها للإمساك بميزان يقوم فيه بقياس عقول الآخرين وتقسيمها لعقول واعية وعقول غريزية ، فإن هذا التفريق ذاته الذي بدأه كارل يونج في نظريته عن الإنسان البدائي يتجاهل تماماً حقيقة تراكم الخبرة والتجربة الإنسانية والتي تضع الغريزة في إطار الأحكام الاجتماعية ، ويفترض عدم وجود وعي لدى الإنسان البدائي ذاته ينسجم مع بيئته وتجربته وخبراته فهو إذن يعتبر أن الإنسان البدائي هو كائن مختلف بعقلية مختلفة عن الإنسان المتحضر ، إن التساؤل الأساسي لكامل النجار هو متى اختفت مثل هذه الآراء التي لا ترى مشكلة في القضاء على الآخر مقابل مصالح مادية أو اجتماعية حتى لدى الغرب العلماني ؟ وبمعنى أوضح متى ظهر مسمى العقل الواعي بشكل واقعي حتى يتم عقد مقارنة بينه وبين مسمى العقل الغريزي كنموذجين مختلفين ؟ . في حتميته الثانية استخدم كامل النجار بعض الشخصيات من مؤسسي الفرق الدينية الحديثة المنشقة عن الكنيسة البروتستانتية في الولايات المتحدة الأمريكية كأمثلة يسقطها بشكل متعسف على غيرهم من الطوائف في العالم ، وبديهي أن مشكلته الأولى تمثلت في حكمه المتعسف بأن مناطق ظهور هذه الطوائف كالمورمون وطائفة ديفيد كيرش (الداوديين) بعيدة عن الثقافة حيث وصف عقلية سكانها بـ (عقلية مزارع القطن) مما يبرر بالنسبة له ظهور الطوائف الدينية على أرضها . إذن فمن غير المتوقع بالنسبة لكامل النجار أن تظهر أي ثقافة اعتماداً على عقلية مزارع القطن الذي ينظر لها كامل النجار باحتقار ظاهر ، ومع ذلك فإن كامل النجار لم يجب عن سر انتشار طوائف عقلية مزارع القطن في أوساط مدن أخرى تعيش على عقلية الرأسمالي الأنيق بهذا الشكل الواسع ، وإن كان من المقبول الحديث عن عقلية مزارع القطن في القرن الـ 19 أثناء الحديث عن المورمون ، فما تأثير هذه العقلية على سكان الولايات الجنوبية في أواخر القرن العشرين حينما ظهرت طائفة الداوديين بقيادة ديفيد كيرش سنة 1986 ؟ وذلك بغض النظر عن أن معلوماته عن نشأة المورمون خاطئة – سهواً أو عمداً – فمؤسس هذه الطائفة ولد في أقصى الشمال الأمريكي في فيرمونت سنة 1805 م ، ثم رحل مع عائلته إلى نيويورك ، ثم بدأت دعوته في سنة 1829 م في نيويورك وعموماً فكلتا الولايتين لا علاقة لهما بعقلية مزارع القطن . لم يشر كامل النجار إلى السر في اعتباره هاتين الطائفتين على وجه الخصوص معياراً لغيرهما من الطوائف ، فبديهي أن ظهور مثل هذه القراءات للكتاب المقدس خاضع لطبيعة الكنيسة البروتستانتية ذاتها وكذلك للتناقضات التي تفرض نفسها على الواقع الأمريكي ذاته والتي تفرز مثل هذه القراءات ، وبالتالي فهي تعد بقدر كبير خاصة بالفكر الأمريكي . في مناقشته لقدرة الأديان على غسل الأدمغة استدل كامل النجار ببعض الممارسات التي يقوم بها بعض المسلمين الشيعة والتي تسمى (التطبير) كنوع من التعبير عن الحزن في ذكرى استشهاد الإمام الحسين (رض) ورغم أنني أوافقه على رفض هذه الممارسات ، كما يوافقه كذلك العديد من علماء الدين الشيعة كالسيد محمد حسين فضل الله ، وحتى مرشد الثورة في إيران السيد الخامنئي ، فإن كامل النجار لم ينتبه إلى حقيقة أن بداية ظهور هذه الممارسات كانت في القرن الـ 16 الميلادي حيث استعارها الصفويون (شاهات إيران في تلك الفترة) من بعض مشاهداتهم لممارسات شبيهة كانت تحدث في أوروبا كتعبير للحزن على المسيح (ع) ، وبالتالي فإن الادعاء بأن هذه الممارسات هي ممارسات دينية كما يرغب كامل النجار رغم أنها ظهرت بعد قرون من استشهاد الحسين (رض) يعد ضرب من الدجل ، وهنا لا يبدو أن للأديان قدرة على غسيل الأدمغة بقدر ما تتجلى قدرة السلطة على استغلال الأديان بما يخدم مصالحها . ومع إصرار كامل النجار على أن يكون نمط تفكيره الغربي هو معيار وميزان العقلاني بمثل هذا الشكل المتعجرف فإن أحد المستشرقين المنتمين لهذه النوعية من نمط التفكير أبدى استياؤه لتوقف هذا الطقس الجليل (التطبير) في مصر مع بدايات القرن الـ 20 ، وأمل أن تؤدي المصاهرة بين البيتين المالكين في مصر وإيران إلى عودته مرة أخرى(*) ، والواقع أن هناك تساؤلات حول مدى عقلانية قيام المسئولين الأمريكيين العلمانيين في الحرب العالمية الثانية باتخاذ قرار إبادة مدينتين يابانيتين عن طريق قصفهما بالقنابل الذرية ، كما نتساءل عن مدى عقلانية تهديد الرئيس الفرنسي العلماني جاك شيراك للدول التي تهدد أمن فرنسا – حسب تصوره – بقصفها بالقنابل النووية بما قد يؤدي لإبادة شعوبها ، في مقابل فتوى الإمام الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية بتحريم استخدام هذه الأسلحة من الأساس ، وبالتأكيد فإن المسئولين العلمانيين في أمريكا أو فرنسا لم ينظرا إلى الكتاب المقدس قبل اتخاذ مثل هذه القرارات ، في حين أن الإمام الخميني نظر إلى القرآن وهو يقوم بصياغة هذه الفتوى . في الجزء الثاني من مقاله يلجأ كامل النجار لعقد مقارنة بين الأديان ربما تبرر هذا الجمع المتعسف لها في إطار واحد . - فكل دين أو طائفة أسسه رجل يتيم أو غير معروف الأب ، ومن الغريب جدا أن يوقع كامل النجار نفسه في مثل هذه الأحكام غير العقلانية والمثيرة للسخرية في حين يجد في نفسه الجرأة على احتكار تعريف العقلانية والثقافة ، وبقدر ما يعد الرد نوع من المجاراة لهذا السخف فإنه يبدو ضرورياً للاستدلال على نقاط الضعف في هذا الحكم ، فلم يكن موسى(ع) يتيماً أو حتى غير معروف الأب مع الاعتراف بأن حياته اتخذت مساراً غريباً بسبب الظروف التي رافقتها ، كما أن مؤسس طائفة المورمون يوسف سميث (1805 - 1844) والتي أشار إليها كامل النجار لم ينتمي إلى أي من النوعيتين . - المتشابهة الثانية بين الأديان هي الثراء الملحوظ لرجالات الدين عموماً المسلمين والمسيحيين واليهود ، وربما أتفق بالفعل معه في هذه الملحوظة التي تضع رجالات الدين في صدام حقيقي مع الأديان التي يدعون إليها ، والتي تبدي ريبة واضحة من الثراء المالي ، ومع ذلك فإنه كان من العدل أن يعترف كامل النجار بأن هذه المؤسسات الدينية والتي يتهمها بالثراء تقدم العديد من الخدمات المجانية للفقراء سواء الكنيسة الكاثوليكية أو رجال الدين الشيعة خاصة أن هذه الأموال التي تتوفر لمرجعيات الدينية (مسيحية أو مسلمة) ليس بناء على نهب أو استغلال إمبريالي وإنما بناء على قناعة من يملكون الأموال من الأتباع بجدارة هذه المرجعيات في القيام بمسئولية الإشراف على توزيع الحقوق الشرعية ، وهنا نلفت نظر كامل النجار إلى أن أحمدي نجاد ليس رجل دين وإن كان على رأس نظام يعتمد على الشرعية الدينية والشعبية . إن كامل النجار لم ينتبه إلى أن النهب المالي لا يستغل الأديان فقط ، فالإدارات الأمريكية تستخدم الضرائب التي يدفعها الأمريكيين لممارسة القتل في أنحاء العالم منذ الحرب العالمية الثانية بحجة نشر الديمقراطية وهي تجيد استخدام الإعلام لتبرير ما ترتكبه من جرائم ، وهنا نتساءل عن مصدر الأموال الضخمة لبعض المؤسسات العلمانية في أوروبا والتي تستخدم عامة في اختراق المجتمعات الشرقية لصالح بسط النفوذ الأمريكي والصهيوني وهي بالتأكيد نوع آخر من الاستغلال المالي لا علاقة له بالدين . - المتشابهة الثالثة وهي حسب نص كامل النجار : " كل دين أو طائفة لا بد لها كي تنجح أن تجد لنفسها أعداء تحاربهم باسم الله. فإذا لم يحاربوا في سبيل الله فلن يُقنعوا العامة بأنهم يمثلون الله في الأرض " ، وهي متشابهة حقيقية بالفعل وإن كان كامل النجار لم يفرق بين الطوائف التي أُستغل عوامها للاعتداء على الآخر وبين الطوائف المعتدى عليها ، وفي كل الأحوال كان على كامل النجار التساؤل حول الغرض من هذا الاستغلال الذي يقوم به زعامات بعض الطوائف ضد الطوائف الأخرى سواء المخالفة للدين أو التي تنتمي لذات الدين ، وهنا نشير أن هذه الملحوظة ليست خاصة بالدين وإنما تستغل كذلك في الإطار القومي، والوطني وهما ينتميان إلى الخط العلماني أكثر من انتمائهما للطائفية أو الدين ، فقوانين هذا الاستغلال ليست خاضعة لطبيعة دين أو طائفة أو حتى القومية وإنما لطبيعة طبقة مسيطرة تسعى لإحكام نفوذها سواء عن طريق استغلال الدين أو الطائفة أو القومية . - المتشابهة الرابعة حول اتخاذ مؤسسي كل دين أو طائفة عدد كبير من الزوجات ، وقد استخدم كامل النجار وضع النبي سليمان(ع) التي تذكر له التوراة عدد ضخم من الزوجات والجواري ، وهنا فإن كامل النجار يحاول محاسبة النبي سليمان الذي عاش في مرحلة تاريخية وحضارية معينة بحسب الأفكار الغربية حالياً ، وبديهي أن هذه المحاولة غير منطقية وتفترض أن الأفكار السائدة حالياً هي الأصلح والأفضل على الرغم من أنها لم تحقق أي نتائج غير معتادة بالنسبة للمجتمعات الأوروبية التي تتبناها ، فمازالت هناك جرائم وبطالة وفساد وخيانات زوجية ... الخ ، وهي نفس الأمراض الاجتماعية التي شهدتها المجتمعات القديمة ، ومع أن التوراة لا تصلح كسند تاريخي في الواقع ولا يوجد دليل واقعي على مصداقيتها – مع احترامنا لها كنص ديني – فإنه من الضروري ذكر أن هذا العدد من الزوجات بالنسبة لملك في تلك الفترة لم يكن سوى دليل على نفوذه الذي تذكر التوراة أنه شمل مناطق عديدة من الشرق ، ولم يكن الزواج سوى مظهر من مظاهر التحالف السياسي والقبلي . أما اعتداء بعض القساوسة على الصبيان فهو يشير إلى ما فعله بعض القساوسة الأمريكيين الكاثوليك في الولايات المتحدة ، ومن الغريب أن التفكير المنطقي يرفض تعميم الأحكام لكن كامل النجار يعتمد تماماً على هذا الأسلوب التعميمي وفي هذه النقطة فإنه يتحدث كما لو أن كل القساوسة المسيحيين أو الكاثوليك يمارسون اغتصاب الأطفال ، أو أن كل مغتصب للأطفال يجب أن يكون رجل دين ما في حين أنه يوجد مغتصبون للأطفال وحتى للنساء لا يؤمنون بأي ديانات أو لا يقيمون وزن للشعائر الدينية . - المتشابهة الخامسة حول الشعائر الخاصة بكل دين ، يقول كامل النجار : " كل دين أو طائفة أدخل بعض الشعائر الدينية التي تختلف قليلاً عن غيره من الأديان رغم أن الجوهر هو نفسه. كل ذلك ليوهموا الجهلاء أن دينهم أو طائفتهم جاءت بجديد " ، إن الشعائر الخاصة بكل دين ترتبط بجوهر دعوته والبيئة التي نشأ بها وأيضاً بالمؤثرات الحضارية التي دخلت عليه أثناء تطوره التاريخي والعقائدي ، ومؤسسي الأديان عموما لا يضعون الشعائر بمثل هذا الشكل التآمري الذي توحي به كلمات كامل النجار المغرقة في السطحية ، وهي عموماً ليست الجديد الذي يأتي به الدين وإنما مظهر له ، وهناك اختلاف جوهري بين المسيحية واليهودية في تركيز المسيحية على الروحانيات ، وذلك رغم الشعائر التي استعيرت فيما بعد من التقاليد الوثنية الرومانية السائدة ، كما أن هناك اختلاف جوهري بين الإسلام واليهودية ففي حين تبدو اليهودية متعصبة لمجموعة بشرية معينة (بنو إسرائيل) وتنظر ببعض العداء إلى المجموعات البشرية الأخرى ، فإن القرآن لا يعترف بأي تمايز بشري قومي أو لوني أو طبقي . - المتشابهة السادسة والأخيرة حول موقف الأديان من المرأة ، وقد شاء كامل النجار أن يصيغ رأيه في هذا الموضوع بشكل تاريخي : " كل دين أو طائفة منذ أن جاء موسى أصبح إلهه رجل ويقوده أو يقودها رجالٌ لا يهمهم من المرأة غير أعضاءها التناسلية. وحتى يستحوذوا على هذه الأعضاء التناسلية فلا بد لهم من إظهار الشجاعة الوهمية العنترية كما يفعل الطاؤوس عندما يقترب من أنثاه . ولذلك نرى ونسمع الخطب الرنانة التي تمجد القتال والدفاع عن دين الله. فعندما كانت الآلهة امرأة كانت آلهة الحب مثل "أفردايتي" و "فينوس" وآلهة الخصب والمياه العذبة، والآلهة التي تحرس القوافل . وآلهة الحب لم ترسل رجلاً رسولاً وإنما أرسلت الطفل البرئ "كيوبيد" ليصيب قلوب النساء والرجال بسهمه ليزرع الحب فيها. وجاء الإله الرجل الحاقد فأرسل رسله الرجال بالسيوف والسهام ليدمروا بعضهم بعضا ً" ، لقد كنت أتمنى حقيقة أن يبتعد كامل النجار عن هذه الإسقاطات التاريخية التي يبدو أنه يعاني من ضعف فيها ، فكل من أفروديت وفينوس هما من منتجات المؤسسات الدينية الوثنية الخاضعة لسيطرة كهنة رجال ، كما أن هذه الإلهات لم يكونا آلهة للحب العفيف بقدر ما كانتا تمثلان الإغراء الجسدي ، وذلك بعيداً عن حقيقة أن آلهة الحرب في معظم الحضارات كانت آلهة مؤنثة منذ أن اكتشف البشر أن أنثى الأسد أكثر شراسة ، ولم ير الجنس البشري حتى الآن أي ديانة ترسل امرأة كمندوبة عنها يمكننا الرجوع إليها ، ولا أعتقد في الواقع مع هذه الزيادة الضخمة في نسبة ارتكاب النساء للجريمة في العالم أن الوضع سيكون وردياً في هذه الحالة . والواقع أن كامل النجار رغم انتقاده إلى اقتصار رؤية بعض رجال الأديان للمرأة على أعضائها الجنسية ، مع عدم صحة هذا الاتهام في الواقع ، فهو لم يطرح في المقابل الرؤية البديلة التي يقترحها ، كما أرجو أن يجيب عن تساؤل حقيقي إذا كانت المرأة كذلك تتجاوز الأعضاء التناسلية للرجل في رؤيتها له ؟ أخيراً وبناء على هذه الأسباب يعلن كامل النجار مقولته " سحقاً للأديان " وذلك رغم أنه طوال المقال لم يتحدث عن هذا الشيء الذي لا يقال له سحقاً ، ودعوته في الأسطر الأخيرة للعودة إلى الوثنية لا تعدو أن تكون مزاحاً ، وإن كان كامل النجار لا يملك بديلاً يتحدث عنه فمن غير الصحيح أن يقول سحقاً لأي شيء أو أن يتحدث بمثل هذا التعالي عما هو عقلاني حتماً وما هو غير عقلاني حتماً والذي يشبه إلى حد التطابق أسلوب السلفيين في تناول أفكار مخالفيهم على أرضية أفكارهم الشخصية ، وذلك خطأ آخر وقع فيه كامل النجار .
------------------------------------
(*) ترجع كل الديانات المعروفة حتى الوثنية منها عقائدها لأصول سماوية إلا أن هذا المصطلح أصبح خاصاً بالديانات الثلاث الكبرى الإسلام والمسيحية واليهودية مع اعتراف الإسلام بسماوية ديانات أخرى مثل الصابئة والزرادشتية .(*) نشر المقال في مواقع أخرى كالحوار المتمدن ، والمنتدى الأيزدي باسم " سحقاً للأديان " وليس " في طبيعة الأديان " أنظر الرابط : http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?t=2&aid=70601 .(*) ج . و . مكفرسون . الموالد في مصر . ترجمة وتحقيق : عبد الوهاب بكر . القاهرة 1998 . ص 265 .

النيرفانا الغربية التي لا يستحقها المسلمون

ربما لا تعد النغمة الموجودة في مقال الكاتب / حسين ديبان ( وفاء سلطان والعالم الإسلامي ) بموقع الحوار المتمدن حول الدين الإسلامي جديدة هذه الأيام والتي انتشرت فيها لهجة تهجمية وتهكمية حول معتقد يعتنقه مليار من البشر، يتنوعون من ناحية الانتماء القومي والجغرافي ومقدار التحصيل العلمي بما لا يمكن الكاتب ولا غيره من وصفهم جميعاً بالجهل أو التخلف . لا يعد هذا المقال رداً على ما جاء في المقال السالف لحسين ديبان بقدر ما هو محاولة للتفكير معه بصوت عال، بجرأة وشجاعة أنترنتية يحسد عليها الكاتب وصف البسطاء والمستضعفين المسلمين بالهمجية لأنهم وبكل براءة غضبوا لكبريائهم من هذه الإهانات الغربية المبتذلة والتي لا تعبر عن فكر أو عن رؤية بقدر ما تعبر وبوضوح إلى أي مرحلة وصل لها الغرب الأوروبي من العنصرية والتناقض المثيرة للاشمئزاز والشفقة . لم تكن المشكلة في هذه الأحداث هي هزيمة المسلمين أو انتصار الدانمارك الهزيل الذي حاول أن يصفه بالبطولية، لكن الانتصار الحقيقي هو اكتشاف كل هذه الشعوب الإسلامية أن المواجهة الحقيقية مع هذا الانحطاط الغربي يجب أن يبدأ مع الأنظمة الألعوبة والعميلة والتي وجهت رصاصاتها للشعوب . إن الهمجية والجهل والتخلف، لو كان لهما وجود في العالم الإسلامي، فالسبب ليس الإسلام ولا أي ديانة أخرى، ولو سمح الكاتب لنفسه بالرجوع إلى التاريخ قليلاً سيكتشف أن هذا الغرب المتمدن والمتحرر والعلماني قد مارس النهب الاستعماري ضد العالم الإسلامي وغير الإسلامي لقرون طويلة لم يتورع خلالها من ارتكاب العديد من المذابح وإبادة مدن وقرى بأكملها والتغيير الديموغرافي للسكان كتعبير عملي على هذه المدنية التي تفضل بالإشارة إليها، وعقب اضطراره للانسحاب العسكري الذي أثقل كاهل هذه الحكومات المتمدنة والمتعلمنة قامت بوضع أنظمة حرصت على فرضها عن طريق الانقلابات العسكرية، وممارسة عمليات التجهيل بالقوة ومحاولة منع شعوب العالم الثالث عموماً من الحصول على التكنولوجيا، ولست في حاجة للتدليل على ما مارسته أمريكا - وهي قمة الديمقراطية والحرية والعلمانية الغربية - من مواقف ضد شعوب وأنظمة كانت اختياراتها الديمقراطية ومواقفها السياسية والاقتصادية على غير هوى أمريكا أو على الأقل تسعى لتحقيق قدر ما من الاستقلالية . ثمة انتصار آخر حصل عليه المسلمون من هذه المواجهة، لقد شاهد الغربيين أنفسهم كيف تزن حكوماتهم وجهات نظرها تجاه مثل هذه المواقف وكيف تسعى بالقوة لتبرير تناقضها المزري، ليس ثمة مشكلة - من وجهة نظر الغرب - في توجيه الإهانات للنبي محمد (ص)، لكن التعامل التاريخي والمنهجي مع حادثة الهولوكوست يؤدي بالضرورة ودون مناقشة لسجن باحثاً تاريخياً بريطانياً لمدة ثلاث سنوات، ولعل هذه الرأفة الغربية بهذا الباحث كانت نتيجة لتراجعه علناً (خوفاً من النهاية المنتظرة) عن أفكاره، وهذا الإجراء يمثل قمة التدليل على ما يملكه الغرب من حرية وقدرة على تحمل الرأي الآخر أو ما يمكن أن يطلق عليه حسين ديبان العلمانية بعيداً عن التدين المتخلف . تناقض آخر يظهره التمدن الأوروبي في موضوع الملف النووي الإيراني، فأمريكا الحرة والعلمانية تتهم إيران الإسلامية المتخلفة بأنها (تنوي) صنع قنابل نووية، في حين لا يوجه العالم العلماني الحر أي تساؤل حول ما تملكه أمريكا من أسلحة دمار شامل خاصة أنها الدولة الوحيدة التي سمحت لها علمانيتها باستخدام هذه الأسلحة لإبادة أبرياء في مدينتي هيروشيما ونجازاكي باليابان، أما فرنسا العلمانية والتي تعبر عن قلقها من البرنامج النووي الإيراني ذي النوايا غير المعروفة والغامضة، فلم تجد غضاضة في شرائعها العلمانية من توجيه التهديدات باستخدام هذه الأسلحة ضد شعوب بريئة لمجرد أن أنظمتها لا تعجب ذوي الشعر الأشقر والعيون الزراقاء . لن يهان النبي محمد (ص) لمجرد أن بعض التافهين والعنصريين في الغرب أرادوا تحقيق شهرة ما عن طريق رسمه بهذه الصورة، أو قبلوا الخضوع لخطة أو مؤامرة ما لإثارة مشكلة تغطي على ممارسات أمريكا في العراق، كما أن قدسيته أو قدسية الإسلام كدين لدى المسلمين لن تهتز، خاصة مع إدراك الشعوب الإسلامية أنه ليس ثمة مقدس لدى الرأسمالية الغربية أصلاً سوى مصالحها واستثماراتها، لكن ما اهتز بالفعل وما اكتشفه المسلمون هو هذا الغرب الذي بدا مشوهاً ومتناقضاً وغير قادر على الدفاع الفكري عن مبادئه حيث لم يجد سوى التهديدات بالقوة عسكرية أو الاقتصادية . على أن الملفت في مقال حسين ديبان هو ما يعانيه من كراهية للمسلمين كبشر وتخلفهم، وهو لا يتكلف إخفاء هذه المعاناة في مقالاته عموماً، وبالتالي أتوقع أن يكتب مقالاً جيداً في فترة لاحقة حول مباركته لما تفعله الولايات المتحدة العلمانية الحرة في الشعبين المتخلفين العراقي والأفغاني، وما يفعله الكيان الصهيوني العلماني الحر من إبادة للشعب الفلسطيني، ومدى فوائد هذه الممارسات على رقي الجنس البشري الذي سيتخلص من مليار إنسان كلهم متخلفين، وهنا ربما يتضح أن مبادئ أدولف هتلر النازية كانت ستكون علمانية حره ومتمدنة لو كانت اتجهت لإبادة المسلمين لا اليهود حسبما يقول الغرب . إنني أنصح الكاتب حسين ديبان أن يتحدث قليلاً في مقالاته القادمة عن الجنة الغربية - العلمانية والحرة والتقدمية - التي حققت النيرفانا لدى شعوب الغرب وكيف أنها تمكنت من القضاء على البطالة والاستغلال والرشوة، ولا يقع رؤساء ومنشئي هذه النيرفانات في فضائح جنسية أو مالية أو ... أو ............الخ

وماذا عن الذين لا يمتلكون حتى حق الادعاء ؟

بغض النظر عن الشعور الأمريكي بالقلق من السلاح الإيراني، وبعيداً عن آراء العسكريين التي أكدت أن إيران قطعت شوطاً ضخماً في التطور العسكري، فهناك العديد من المثقفين العرب لا يمكنهم استيعاب أن تتمكن دولة لا تبعد عنهم كثيراً مثل هذه القدرات رغم حالات الحصار التي مورست عليها منذ قيام ثورتها الشعبية في 1979 م، في مقابل ما تعانيه الدول العربية من عدم القدرة حتى على ادعاء القيام بأي تطور ما مستقل عن الرقابة الأمريكية . في مقاله " الأفيال الإيرانية الطائرة " عبر نبيل الحسن عن هذا القطاع الذي لا يتحمل أن يكون هناك شعباً قادراً على المواجهة، بعيداً عن الجعجعة والصياح المتبادل (الحكومي والمعارض) الذي يميز الساحة العربية . في بدايات مقاله يحاول نبيل الحسن أن يذكر الكثيرين بالمواجهة السابقة بين العرب والفرس في القادسية، وهي محاولة رغم قدمها مازالت وسيلة فعالة للتعبير عن قدر ضخم من العنصرية يحتمي خلفه الشوفينيين العرب دائماً من مواجهة حقيقة أن هذا التطور لإيران يثبت فشلهم التاريخي في تحقيق أي إنجازات، ومتناسية أن العديد من الإيرانيين – بما فيهم مرشد الثورة - يرجعون لأصول عربية وتركية وكردية في حين لا يمكن لنبيل الحسن ذاته أن يؤكد على نحو حاسم أن أصوله ليست فارسية أو تركية . لقد لجأ نبيل الحسن إلى عقد مقارنة بين عبد الناصر، وصدام حسين من ناحية وبين الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من ناحية أخرى في محاولة لإثبات رؤيته عن مصير إيران القادم المشابه لمصير التجربتين الناصرية والصدامية، وهي مقارنة تجاهلت عمداً الفارق الضخم بين الأسس التي قام عليها النظام الإيراني وبين غيره من الأنظمة العربية . فبعكس الأنظمة العربية " مدعية الثورية " والتي صعدت إلى السلطة عبر انقلابات عسكرية فرضت على هذه الشعوب كنظام عبد الناصر، والأنظمة البعثية في العراق وسوريا واليمن، كانت الثورة الإيرانية التحرك الجماهيري الوحيد في الشرق الأوسط الذي يمكن أن يُطلق عليه بالفعل مصطلح " ثورة " . وبعكس الأنظمة العربية التي لا تمتلك أي مؤسسات وتنبع حركتها من إرادة ومصلحة الرئيس أو الملك وأحزابهما الحاكمة على الدوام، فإن الدولة الإيرانية – بغض النظر عن وضعها – لديها مؤسسات مستقلة ذات قواعد محددة يجب على الجميع احترامها ولا يتوقف سيرها على مزاجية أو مصلحة شخص . وليس صعباً إثبات أن هذه الأسس مهما اختلفنا معها أو حولها قد أضفت على الأوضاع السياسية في إيران حيوية مختلفة غير متواجدة في غيرها من بلدان الشرق الأوسط، فقد شهدت إيران - منذ قيام الثورة الإيرانية في سنة 1979 م – صعود ستة رؤساء إلى الحكم عبر انتخابات حقيقية شهدت العديد من المفاجآت غير المتوقعة في بعض الأحيان، كما شهدت قدر كبير من الرتابة في أحيان أخرى، في حين لم تشهد دولة كمصر التي قامت ثورتها – كتعبير مجازي – في سنة 1952 م سوى أربع رؤساء تم التخلص من أولهم عبر انقلاب عسكري، في حين لم يترك التالون له مقعد الرئاسة إلا بعد وفاتهم . إن الفارق كبير بين أحمدي نجاد وكل من عبد الناصر وصدام حسين، فالأول يدرك تماماً أنه لن يبقى رئيساً أكثر من ثمان سنوات في أفضل الأحوال ويتعين عليه بعدها أن يترك منصبه دون التشبث بأي إرادة شعبية وهمية على الطريقة العربية الشهيرة، كما يدرك أن هناك مؤسسات رقابية قادرة على تعويقه وتحجيمه في أية لحظة في حال خالفت خططه مصالح الدولة، وهناك أيضاً ناخبين قادرين على إسقاطه إذا لم يوف بوعوده في سياساته الداخلية والخارجية . لقد كان على نبيل الحسن أن يدع إيران ويلتفت إلى هؤلاء الذين لا يملكون حتى حق الادعاء الكاذب بتحقيق أي تطور بعيداً عن المعونات والرقابة الأمريكية أو المنح الغربية .

" المهمشون في التاريخ الإسلامي " للدكتور / محمود إسماعيل كتابة جديدة لتاريخ الحركات المجهولة والمشوهة

ربما لا يُعد اهتمام د. محمود إسماعيل بالحركات الاجتماعية شيئاً جديداً، من حيث تبنيه للمادية التاريخية كمنهج للبحث، وهو ما يشترك فيه معظم الباحثين التاريخيين الماركسيين، إلا أن أبحاث د.محمود إسماعيل تتميز بأنها الأكثر وعياً ونضجاً في استخدام المنهج المادي والتعامل مع النص، وهو ما تفتقر إليه مثيلاتها من الأبحاث الماركسية والتي تعاني من الازدواجية في تعاملها مع النصوص فترفض بكل جرأة الاتهامات التي يوجهها مؤرخو السلطة لهذه الحركات بالفساد الأخلاقي، ومن ناحية أخرى تقبل بكل بساطة الاتهامات التي يوجهها نفس المؤرخون وفي نفس النصوص لهذه الحركات بالفساد الديني، وهي مفارقة لم يقع فيها الدكتور محمود إسماعيل والذي أدرك مدى الربط المتعمد والمدروس الذي تقوم به هذه النصوص بين الخروج على الحاكم والخروج على الدين.
في كتابه الأخير " المهمشون في التاريخ الإسلامي " يواصل د. محمود إسماعيل رصده للحركات المجهولة والمشوهة في التاريخ الإسلامي المدون، وهو ليس الكتاب الأول في هذا المجال حيث سبقه كتابيه المهمين " فرق الشيعة "، " الحركات السرية في الإسلام " وقد عالج فيهما الدكتور محمود إسماعيل العلاقة بين التطورات الاجتماعية ونشوء الفرق الدينية في التاريخ الإسلامي، ويبدو الكتاب الأخير كتتويج – ليس نهائياً – لأبحاثه في هذا الموضوع، وقد صرح الدكتور محمود إسماعيل في مقدمة الكتاب أن غايته الأساسية هو تقديم تاريخ لحركات المهمشون في صورة مقالات مبسطة للمثقفين العاديين لنشر الوعي التاريخي والذي يؤكد الكاتب على أهميته في قراءة حاضرنا المعقد والمضبب في آن، ولعل هذا ما يفسر عدم احتواء الكتاب على أي هوامش توثيقية، على أساس أن الكتاب هو تجميع مختصر لنتائج أبحاثه ودراساته في كتبه السابقة.
في هذا الإصدار الأخير قدم د. محمود إسماعيل عدة نماذج لحركات وهبات المهمشين، وقد راعى أن تكون متضمنة لكافة الأشكال والأساليب التي استخدمها العوام في الثورة، وقد تنوعت ما بين الهبات العفوية، والثورات المنظمة التي امتلكت فكراً عقائدياً وبرنامجاً بديلاً للوضع القائم، وأخيراً التنظيمات العشوائية والتي رغم صدامها مع السلطة لم تكن تمتلك أي برنامج أو أهداف تسعى لتحقيقها، ورغم هذا التنوع فقد افتقد هذا الكتاب الإشارة إلى بعض الثورات الأخرى للمهمشين كانت أكثر قوة وأوسـع تأثيراً، لعل أهمها ثورة " بابك الخُرمي " في آذربيجان، والثورة " السربدارية " في خُراسان، والواقع أن أحد سلبيات هذا التنوع هو وضع هذه الأشكال من التعبير الثوري في مستوى واحد فقد افتقد الكتاب تقييماً نهائياً لمدى جدوى هذه الأشكال من التعبير الثوري في تحقيق مصالح الكادحين، ورغم أن الأبحاث ذاتها احتوت على انتقادات خاصة بكل حركة إلا أنها لم تتطرق إلى نقد الشكل الأصلي بقدر ما انتقدت الممارسات التفصيلية.
يبدو واضحاً من مقالات الكتاب استهدافها لتأكيد عدة قواعد في تاريخ الثورات الاجتماعية استقاها الدكتور محمود إسماعيل من أبحاثه الطويلة في هذا المجال :
1 – عدم براءة المادة التاريخية المتاحة.
2 – دور البرجوازية في رعاية الحركات التنويرية والثورية للمهمشين.
3 – ضعف الوعي الطبقي في هذه المرحلة من التاريخ الإسلامي.
4 – وحدة تاريخ العالم الإسلامي من حيث حركيته وصيرورته.
5 – الدور الثانوي للمذاهب الدينية في الصراع الطبقي.
إن مناقشة هذه القواعد تمثل في الواقع مناقشة لجزء كبير من رؤية الدكتور محمود للتاريخ الإسلامي والتي تتضح في كتاباته عموماً وعلى الأخص الكتاب الأكثر أهمية في هذا المجال، والذي يمثل مشروعه الفكري والتاريخي " سوسيولوجيا الفكر الإسلامي ".
! إن استعراض بدايات التدوين التاريخي يؤكد لنا صحة القاعدة الأولى التي تنص على عدم براءة المادة التاريخية المتوافرة، ففي عام 143 هـ قام الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور بالتشجيع على تدوين العلوم المختلفة وخاصة علمي الحديث والتاريخ، بهدف خدمة الأغراض الدعائية والإعلامية للسلطة العباسية الجديدة، ومن الواضح أن هذين العلمين على وجه الخصوص وضعا تحت مراقبة السلطة التي استخدمتهما في مواجهة الحركات المناهضة، بل أن المرويات التاريخية تذكر أن الخليفة العباسي هارون الرشيد قام بتلفيق ألف حديث على لسان النبي (ص) بمساعدة محدث مشهور وهو عبد الله بن المبارك، على مستوى التاريخ يلاحظ أن العباسيين استطاعوا القضاء على أي مؤلفات تحوي مرويات تاريخية غير خاضعة لسيطرتهم، ولم يكتب البقاء إلا للمصادر المتأخرة عن الحدث والتي تأثر كُتّابها بكم ليس قليلاً بما تطرحه مصادر السلطة، وبالتالي فقد ظلت مصادر السلطة تمثل المصدر الأساسي لأي بحث تاريخي، بل أن السلطة في بعض الفترات قامت باختراق التجمعات العلمية للفرق المعارضة لها واستطاعت دس المرويات المنسوبة لقياداتها التاريخية والفقهية والتي تؤيد الرؤية العباسية تجاه الحركات الاجتماعية المعارضة بطرق غير مباشرة.
والواقع أن وجود صدام طبقي، أو عقائدي، أو سياسي ما بين راوي النص التاريخي والقائمين على الحدث التاريخي الذي يرويه يجعل من المستحيل الحديث عن نصٍ محايد تماماً، فأغلب المصادر التاريخية تتعارض مع الحركات الاجتماعية من النواحي الثلاث، كما أن الاتفاق في ناحية أو ناحيتين لا يعني إهمال نقطة الخلاف الموجودة والتي تلقي بظلالها على ما يرويه المؤرخ.
وعلى سبيل المثال فإن المرويات الشيعية الرسمية من صاحب الزنج تتخذ مواقف سلبية عموماً، ومع ذلك فقد ذكرت المعاجم الشيعية أسماءً لمؤلفات ألفها بعض الشيعة المقربين من صاحب الزنج، والتي لم يكتب لها البقاء للأسف، ككتاب (أخبار صاحب الزنج) لأحمد بن إبراهيم العمي، وقد كانت كفيله بمنحنا رؤية صحيحة ومختلفة تماماً عن هذه الثورة.
! بالنسبة للقاعدة الثانية فقد عزا الدكتور محمود إسماعيل قصور الوعي الذي شاب معظم حركات المهمشين في بعض جوانبه إلى غياب دور البرجوازية والتي وصفها بأنها " عاجزة وهزيلة دافعت عن وجودها والحفاظ على مصالحها، بمهادنة الحكومات القائمة وليس بالثورة عليها وتقويض حُكمها "، وقد أرجع هزال البرجوازية وعجزها إلى عوامل " جغرا – تاريخية " تتعلق بطبيعة المجتمعات الإسلامية الزراعية الرعوية أساساً وبالتالي فلم تتخلق طبقة وسطى قوية وقادرة على الصراع مع الإقطاع العسكري، بل هونت من هذا الصراع وخففت حدته، الأمر الذي أتاح للنظم القائمة الدوام والاستمرار.
إن هذا التصور صحيح بكل تأكيد ومن الممكن إضافة عوامل أخرى لضعف البرجوازية، فالملاحظ أن هناك خلافات بين العالمين الشرقي والغربي في نشأة الدول واضمحلالها، فبينما تنشأ الدول في العالم الغربي بناء على تطور نمط إنتاج معين، فإن نمط الإنتاج في الشرق ينشأ ويتطور بناء على رعاية ودعم الدولة، وهو يعود بالطبع إلى العوامـل الـ " جغرا – تاريخية " التي أشار إليها الدكتور محمود، فالمسألة الزراعية لم تطرح نفسها بقوة إلا عقب تكوين الوحدة السياسية لا العكس، وهذه الوحدات تنشأ في الواقع بالاعتماد على وضعها القبلي والجغرافي وليس الطبقي، وبالتالي ينشأ كلا النمطين الإقطاعي والتجاري تحت سيطرة الدولة الممثلة في الحاكم، ويتخذ تطورهما ووضعهما خطاً موازياً لمصلحة هذا الحاكم، وعقب تحقيق التوسعات السياسية تبدأ المسألة الزراعية في البروز وينتج عنها خروج الإقطاع في صورته العسكرية عن سيطرة الدولة وضعف السلطة المركزية في مواجهته، مما يؤدي إلى تردي وضع التجارة بسبب قيام الصراعات الداخلية بين الإقطاعيين الجُدد، واضمحلال الدولة ثم سقوطها، أما الطبقة التجارية فهي غير قادرة على خوض صراع مع الإقطاع بشكل منفرد بسبب عدم استقلاليتها وارتباطها بالحكم المركزي، وخضوعها للأعراف القبلية، وتحول الكثير من أبنائها إلى حيازة الأرض الزراعية، وبالتالي فالازدهار التجاري كقاعدة يعبر دائماً عن قوة وضع الحكومة المركزية في مواجهة الطموحات الاستقلالية للإقطاعيين العسكريين، في حين يشير الانهيار التجاري إلى سيطرة الإقطاع العسكري وسقوط قوة الحكم المركزي، إن أهم صور هذا الهزال البرجوازي تبدو واضحة في المذاهب الفقهية والعقائدية، فلم يصمد مذهب واحد من المذاهب التي أنتجتها البرجوازية التجارية كالمعتزلة والكرامية والمرجئة، بل أن المذهبين الوحيدين الباقيين من منتجات البرجوازية وهما الزيدية والإسماعيلية يعانيان من الحصار الجغرافي، فلا يتواجد المذهب الزيدي إلا في اليمن وبعض المناطق الخاضعة لسيطرة السعودية والتي ينتمي أبنائها إلى قبائل يمنية كعسيـر ونجران، كما لا يتواجـد الإسماعيليين إلا في مناطـق محدودة مـن العالم الإسلامي، وهي أشبه بالجيتو الذي لا يتناسب مع كم النشاط السياسي والفكري للإسماعيلية في التاريخ الإسلامي، وهو ما أدى إلى توقف انتشار المذهبين خارج نطاق العائلات المنتمية إليه بالوراثة، وضعف حركتهما الفكرية والفقهية، فحتى الآن ما زال كتاب " دعائم الإسلام " الذي ألفه القاضي النعمان بن محمـد في النصف الثاني من القرن الرابع هو كتاب الفقه الأساسي لدى الإسماعيلية، بل أن تحول خوارج مدينة سجستان الإيرانية إلى الاستقرار وممارسة التجارة أدى بمذهبهـم إلى نفس النتيجة ولم يجد الشاه إسماعيل الصفوي الكثير من الصعوبة في إقناعهم بالتحول إلى التشيع، والواقع أن هذا يشير بقدر أكبر إلى أن المذاهب البرجوازية لا تمثل سوى مرحلة زمنية معينة بينما تتميز المذاهب المعبرة عن الكادحين أو الإقطاع بالرسوخ وبقدرتها على التكيف مع الأوضاع المتغيرة.
! القاعدة الثالثة تمثل السبب الثاني في قصور حركات العوام وهو " ضعف الوعي الطبقي "، يطرح الدكتور محمود إسماعيل هذه القاعدة كتفسير لقصور كل الحركات الاجتماعية، إلا أن الواقع أن ضعف الوعي الطبقي لا يشمل سوى الحركات والتنظيمات العشوائية كـ " الحرافيش " في مصر، وحركات " الأحداث " في الشام، و" الصقورة " في المغرب والأندلس، و" الفتاك " في آسيا الوسطى، وحركات " الفتوة " في الشام والعراق، إضافة إلى الحركات الحرفية كـ " العيارين " في العراق، والتي لم تكن تملك أي أهداف أو طموحات سياسية، ولم يكن لها برنامجاً اجتماعياً بديلاً، وبالتالي فقد كان بمقدور السلطة القضاء عليها بسهولة بل واستخدامها في مواجهة أعدائها في بعض الأحيان، فيروي ابن جبير في رحلته عن مشاهداته بدمشق، أن حركات " الفتوة " بالشام والتي كانت مؤيدة من صلاح الدين الأيوبي، كانت تقوم بعمليات اغتيال ضد الأهالي الشيعة في دمشق والذين كانوا يمثلون الغالبية العظمى من سكانها في تلك الفترة، والغريب أن المثل الأعلى لزعماء هذه الحركات كان علي بن أبي طالب !! وهنا يبدو من الواضح استخدام صلاح الدين لهذه الحركات في مواجهة الشيعة الذين اعتبرهم أعدائه التقليديين لإحداث تغيير في الانتماءات المذهبية لسكان دمشق، وبالتأكيد فإن هذه العمليات لا تنم عن أي وعي طبقي أو سياسي، أما حركات العيارين في العراق والحدادين في الأندلس فلم تكن لها أي مشروعات في مواجهة السلطة القائمة لذلك فقد كان من السهل على السلطة التعامل معها والسيطرة عليها، ومن ثم استغلالها.
ومن البديهي أن نجاح الثورة أو فشلها ليس دليلاً على وجود الوعي الطبقي أو انتفائه، ومع ذلك فنفس هذا القدر من الوعي هو الذي نجح العوام عن طريقة في تأسيس دولة القرامطة، والدولة الصفارية، إن الحركات الشيعية والخارجية كانت تمتلك قدراً كبيراً من الوعي الطبقي كما امتلكت برامجاً اجتماعية بديلة، وبينما كان الشيعة يمثلون مصالح الفلاحين والحرفيين وصغار التجار وهي الطبقات والشرائح التي استفادت من الإجراءات الاقتصادية التي أصدرها علي بن أبي طالب، كان الخوارج يروجون لبرنامج خليط ما بين الفكر التجاري والقبلي، كما روج السلفيين بزعامة "ابن تيمية" للإقطاع في العصر المملوكي، على أنه كما هو واضح فإنه من غير الممكن القول باكتمال الوعي الطبقي لدى هذه الحركات، فقد كانت محصورة في إطار الولاء الديني بحيث كانت ثوراتها ليست فقط تعبيراً عن طبقة وإنما عن الانتماء الطائفي، ومع ذلك فقد كان هذا القدر من الوعي الطبقي كافياً لنجاح هذه الثورات في تلك الفترة.
والواقع أنه حتى الحركات الاجتماعية والتي فشلت في البقاء لفترات طويلة كانت تمتلك وعياً طبقياً كثورة بابك الخرمي، وثورة أبي الخطاب الأسدي، وثورة المقنع الخراساني، ولم يكن فشلها ناتجاً عن ضعف الوعي الطبقي بقدر ما كان ناتجاً عن أخطاء تنظيمية أو سياسية، وتشير عبارة الثائر الشيعي التركي " بركليوجه مصطفى " الذي قاد ثورة ضد العثمانيين بمشاركة الفلاحين الأتراك واليونانيين المسيحيين: " إنني أدخل منزلك مثلما أدخل منزلي، وادخل أنت منزلي مثل دخول منزلك باستثناء الحريم " إلى وجود برنامجاً اجتماعياً واضحاً ووعياً طبقياً لدى هذه الحركات، وقد استطاعت بعضهـا تأسيس دول استمرت لفترات طويلة، كدولة السربداريين والتي قامت بناء على الفلاحين في خراسان، ودولة آل المشعشع والتي قامت على يد الفلاحين والعيارين في خوزستان، ودولة السادات والتي اعتمدت على الحرفيين والفلاحين في مازنداران، وكان الطابع المشترك ما بين هذه الدول هو المطالبة بتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والعداء للإقطاع، ولذلك فهي تشترك أيضاً في أن أتباعها كانوا يقسمون النعم الدنيوية عليهم.
! القاعدة الرابعة تبدو مرتبطة برفض الدكتور محمود إسماعيل لنظرية بعض المثقفين المغاربة حول حدوث قطيعة بين المشرق والمغرب الإسلاميين، وبالتالي فقد ضمن الكاتب خمس نماذج لحركات وهبات قام بها المهمشون في المغرب الإسلامي والأندلس، وهي بالفعل حملت الكثير من عناصر التشابه مع مثيلاتها في المشرق.
وبالتأكيد لا يمكن الاتفاق على وجود قطيعة معرفية بين المشرق والمغرب الإسلاميين في حين أن كل المذاهب الدينية التي اعتنقها المغاربة قادمة أصلاً من الشرق، إلا أنه وفي المقابل هناك بالفعل خصوصية في التاريخ المغربي، ففي حين أدت الإجراءات الاقتصادية للخلافة الأموية بالشرق إلى القضاء على الإقطاع القبلي تماماً، كما أدت الثورات العلوية وصعود العباسيين إلى ضعف الانتماء القبلي كوضع اجتماعي، استمرت سيادة هذا النمط في مناطق المغرب إلى فترة متأخرة من الخلافة العباسية، وكانت معظم الحركات المعارضة للحكم العباسي تعبيراً عن الصراع ما بين الوضع القبلي السائد في المغرب والأشكال الأخرى للإقطاع في الشرق والتي كانت الدولة العباسية تطمح إلى سيادتها، وقد قامت معظم الدول المعارضة للعباسيين بناء على تأييد زعماء قبائل أمازيغية (بربرية) لها، فالدولة الفاطمية اعتمدت على تأييد قبيلة كتامة، في حين اعتمدت دولة الأدارسة على قبيلة أوربة، واعتمدت الدولة المدرارية على قبيلة مكناسة، وعلى الرغم من ذلك فلم توفق أي من هذه الدول في نشر عقيدتها بتوسع بين المغاربة ربما بسبب عدم توافق هذه المذاهب في الأصل مع التراث القبلي المغربي، والواقع أن المذهبين الذين حققا نجاحاً في الأوساط الشعبية المغربية هما المذهب المالكي والمذهب الإباضي (أحد مذاهب الخوارج)، ومازال لهما نفس السطوة حتى الآن في المغرب العربي، ولعـل السبب فـي ذلك هو أن كلا المذهبين يبدي قدراً أكبر مـن المرونة في التعامل مـع الإقطاع والطموحات القبلية، وبالتالي فقد شهد المذهبين تنوع الانتماءات القبلية والعنصرية والطبقية للمعتنقين مـن المغاربة، وفي حين لم ينتج المتشيعين مـن المغاربة أي انتاجات فكرية أو فقهية تذكر سواء في العهـد الفاطمي أو الإدريسي، فإن الإنتاجات الفقهية والعقائدية المغربية في المذهبين المالكي والإباضي هي الأكثر نضجاً وتأثيراً في أتباع المذهبين سواء في الشرق أو الغرب.
لقد استدل د. محمود إسماعيل على التشابه فيما بين المشرق والمغرب بحركة " عمر بن حفصون" التي قامت في الأندلس، ورغم اتفاقي مع الدكتور محمود على عدم وجود القطيعة المدعاة بين الشرق والغرب فإن الاستدلال بثورة عمر بن حفصون ربما لا يمثل الدليل الأكثر واقعية، إن من الخطأ الربط بين تاريخ المغرب وتاريخ الأندلس الذي يمتلك وضعاً اقتصادياً واجتماعياً مختلفاً تماماً عـن المغرب، فقد كان التنوع ما بين عناصر المسلمين ما بين العرب والأمازيغ إضافة إلى خليط من الموالي الفرس والأفارقة وأكثرية من المسلمين من أصول أسبانية دوره في القضاء على سيادة الانتماءات القبلية، خاصة أن المجتمع الأندلسي ذاته لم يكن مجتمعاً قائماً على القبلية قبل دخول الإسلام، فرغم الارتباط الجغرافي والإثني بين المغاربة والأندلسيين، فإن الأندلس أقرب إلى الشرق في الناحية الاجتماعية والمعرفية، فبعكس المغرب فقد تنوعت المذاهب الدينية في أوساط الأندلسيين بالإضافة إلـى المذهـب المالكي، حيث انتشر المذهب المعتزلي، كما انتشرت المذاهب الشيعية على نطاق واسع كالمذهب الإسماعيلي، والمذهب الإثنى عشري بل أن ظاهرة العزاء الحسيني المنتشرة الآن بين الشيعة في العالم الإسلامي بنفس طقوسها بدأت أصلاً في مدينة مرسية وشرق الأندلس، حيث كان يقام مشهداً جنائزياً يجسد استشهاد الحسين بطريقة تمثيلية، ويحضر القراء والمنشدون لقراءة المراثي الحسينية، كما ألف الموريسكيون كتاباً في مغازي الإمام علي بن أبي طالب يبدو فيه بوضوح آثار الكثير من العقائد المتداولة بين الشيعة، وبالتالي فقد مثلت الأندلس إقليماً أوروبياً له صفاته الخاصة المختلفة عن الشرق الآسيوي والغرب الإفريقي.
إن النماذج الخمسة التي أوردها د. محمود إسماعيل لا يُمَثلُ المغرب فيها إلا بنموذجين وهما حركة " حميم المفتري "، وحركات " الصقورة " وبينما تنتمي الحركة الأولى إلى الطابع المغربي القبلي التقليدي، فإن حركات "الصقورة " هي المثال الأكثر وضوحاً على عناصر التشابه والتواصل الموجودة بين المشرق والمغرب والأندلس، بل يمكننا أن نؤكد أن التشابه ما بين المشرق الإسلامي والأندلس أكبر من التشابه بينه وبين المغرب، ولعل من الملاحظ على الثورات والحركات الأندلسية رغم اتسامها بانعدام الأيدلوجية المذهبية - وهي سمة كل النماذج الأندلسية التي أوردها د. محمود إسماعيل – ارتباطها أكثر بطموحات العوام وعد اتسامها بأي ملامح قبلية، وتمثل ثورة " عمر بن حفصون " الدليل الأكبر على ما للأندلسيين من خصوصية، فبينما اعتمدت معظم الحركات الشرقية على المعتقد المذهبي في المقام الأول، واعتمدت معظم الحركات المغربية على الانتماء القبلي في المقام الأول، كانت هذه الحركة منفلتة عن الاتجاهين، وربما يرجع ذلك إلى استطاعة الأندلسيين الجمع مـا بين العديد من المذاهب في وقت واحد، فبينما يسود المذهب المالكي في الفقه فإن التعاطف مع آل البيت والميل لهم والغضب على أعدائهم هو السائد من ناحية عاطفية، وهذا الوضع الديني الفريد لا يماثله إلا الوضع المصري والذي يرفض التحفظات والتشنجات التقليدية بين أتباع المذاهب المختلفة.
! يبقى القاعدة الخامسة والتي أشار لها الدكتور محمود إسماعيل في الكتاب في إطار عرضة لثورتي " الخشبيـة "، و" الزنج الأولى والثانيـة "، حيـث أشار إلى ثانوية دور المذاهب الدينية في الصراع الطبقي، إن هذه القاعدة ربما تصدق على الوضع في الأندلس كما أشرت سالفاً، إلا أن الأوضاع الاجتماعية في مناطق العراق كانت مختلفة، فبغض النظر عن الدلائل التاريخية فإن معظم الثورات الاجتماعية كانت لها انتماءات مذهبية وخاصة التشيع، فقد استفاد الكادحون والحرفيون ومعظمهم مـن الموالي – كما أشار د. محمود – من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية لعلي بن أبي طالب، وبالتالي فقد كان للتيار الشيعي شعبيته الجارفة في أوساط الفلاحين والحرفيين بالكوفة وهم الذين قاموا أساساً بثورة الخشبية بقيادة المختار بن أبي عبيد، ولعل ما يذكره الطبري عن الشخصية المرتبطة أكثر بهذه الثورة " أبا عمرة كيسان التمار "، وهو مولى فارسي والمحرك الرئيسي للأحداث، أنه عوقب في عهد معاوية بن أبي سفيان بتهمة التطاول على الأمويين والسبئية تدليل واضح على تشيع الثورة.
إن السبب الرئيسي لشكوك الدكتور محمود إسماعيل حول ثورة الخشبية هو هذا الكم من المرويات عن المختار والذي يشكك في انتماءاته ويصفه بالانتهازية والتقلب الفكري والمذهبي ما بين الانتماء للأزارقة ثم لابن الزبير ثم التشيع، وأخيراً استغلال اسم محمد بن الحنفية والزعم بكونه المهدي المنتظر لجذب شيعة الكوفة إليه.
إن نقد هذه المرويات في الواقع يظهر ما تعانيه من ضعف وتناقض، فقد فسرت هذه المرويات اشتراك المختار في الدفاع عن مكة ضد جيش يزيد بن معاوية مع الأزارقة أنه انتماءً لهذه الفرقة، على الرغم من أن هذا الدفاع لم يكن بقيادتهم وإنما بقيادة عبد الله بن الزبير، والغريب أن المرويات التاريخية لم تدعي أبداً أن نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة من الموالين لابن الزبير بناءً على محاربته للأمويين تحت قيادته، في حين فسرت مبايعة المختار لعبد الله بن الزبير كمناورة سياسية لتحييده مؤقتاً في أثناء محاولته السيطرة على الكوفة على أنه ولاءً لابن الزبير، والواقع أن المختار كان ولاؤه للشيعة منذ البداية، كما شارك في ثورة الحسين وكان أول المستقبلين لمندوب الحسين للكوفيين مسلم بن عقيل واستضافة في منزله لفترة، أما المرويات التي تنقل عنه الترويج لمهدية محمد بن الحنفية، فقد نقلت معظمها على لسان المعادين له وللعلويين كعامر الشعبي راوي البلاط الأموي وأبو الحسن المدائني راوي العباسيين، إن الموقف الإيجابي للأئمة العلويين وخاصة علي بن الحسين من الثورة والتي حصلت على مباركته، تدليلاً واضحاً على عدم صحة هذه الاتهامات والتي تعد تقليدية في مواجهة ثورة امتلكت عقيدة مخالفة للأرستقراطية ووعياً طبقياً في مواجهتها.
الأمر ذاته ينطبق على الأوضاع في البصرة والتي لم تخلو من وجود موالين للعلويين وبرز دور هؤلاء بوضوح في أثناء ثورة الحسين حيث استطاع زعيمهم يزيد بن مسعود النهشلي حشد أتباعه من بني تميم وبني حنظلة سراً وتجهيزهم انتظاراً لوصول الحسين إلى الكوفة، والمعروف أن علي بن أبي طالب هو أول من استخدم الزنج وعنصر الزط (السبابجة) في الدولة كحرس على بيت مال البصرة، وهـو مـا يعني أن جلبهم تم قبل سيطرة الأمويين على العراق، وقد تحسنت أوضاعهم في عهده كغيرهم من الموالي، إلا أن مشاركتهم في الأحداث ظلت قليلة، وتذكر المرويات أن أول انتفاضاتهم كانت في عهد مصعب بن الزبير، الذي خاض صراعاً مع المختار عقب استيلاء الأخير على الكوفة، مما قد يشير إلى علاقتهم بثورة المختار الثقفي.
لقد استدل د. محمود إسماعيل على اعتناق الزنج لمبادئ الخوارج بتلقُب زعيمهم " شير زنجي " بلقب الخلافة " أمير المؤمنين "، إن إذاعة الأمويين لهذا الادعاء يمثل مبرراً فقهياً للبطش بهؤلاء الثوار، إضافة إلى إزكاء سلاح العصبية العنصرية لدى القبائل العربية وهو ما حدث بالفعل – كما ذكر د. محمود -، والواقع أن الفكر الخارجي على الرغم من إعلانه أحقية كل المسلمين بالإمامة، فإنه على مستوى التطبيق – في مناطق الشرق – ظل عربياً متزمتاً ولم يتقبل بالفعل أي حقوق للموالي في هذا الشأن، وبالتالي رغم تعاطف الكثيرين من الموالي مع الثورات الخارجية نكاية في الأمويين فإن قليلاً منهم فقط هم من اعتنقوا هذا المذهب بالفعل، بل أن المرويات التاريخية تذكر أن محمد بن بشير الخارجي قدم احتجاجاً إلى والي المدينة بسبب سماحه بزواج امرأة عربية من بني سليم لأحد الموالي، وقد كلف هذا الاحتجاج المولى الفارسي مائتي سوط وحلق شعر رأسه ولحيته، إن الفكر الخارجي كان معبراً عن عداء القبائل العربية لسيطرة القرشيين وهم مع طرحهم لفكرة حق كل مسلم في الإمامة لم يتوقعوا أبداً أن يطمح الموالي لهذا المنصب، بل أن أصحاب نجدة بن عامر الحنفي عقب عزلهم له رفضوا قبول تولي ثابت التمار منصب زعامتهم لكونه فارسي وإن كلفوه باختيار زعيماً عربياً لهم، الأمر الذي يجعلني أستبعد أي علاقة للفكر الخارجي بهذه الثورة.
على أن علاقة ثورة الزنج الثانية بالفكر الشيعي أكثر وضوحاً، فقد انتسب علي بن محمد إلى الإمام علي بن أبي طالب، وعلى الرغم من المرويات الكثيرة المشككة في نسبه فقد اعترف به العلويون المعاصرون، وانضم بعضهم إليه، كعلي بن زيد وطاهر بن أحمد بن القاسم، ومحمد بن القاسم، والواقع إن إعلان صاحب الزنج لنسبه العلوي هو تدليل على تشيعه، إضافة إلى مناصرة هذا الكم من العلويين له، ووجود شخصيات شيعية إثنى عشريـة كالمعلى بن أسد العمي بين المقربين له، ولابد من الإشارة إلى الرقابة اللصيقة التي تعرض لها الحسن بن علي (الإمام الحادي عشر) والمعاصر لهذه الثورة في تلك الأثناء والتي انتهت باغتياله كما تروي المصادر الشيعية، ولعل وفاته في سن صغيرة تدليلاً على أنها تمت بطريقة غير طبيعية، وعلى الرغم من محاولة المرويات التاريخية الإشارة إلى أن هذا الإمام العلوي لم يكن له أي ممارسات سياسية، فمن الواضح من هذه الإجراءات العباسية صلته بثورة الزنج والتي تبرر إقدام العباسيين على قتله، وهنا أشير إلى أن من المستبعد أن يدعي صاحب الزنج المهدية، في حين لا تنطبق عليه مواصفات المهدي المذكورة في كتب الفرق الإسلامية المختلفة، وإن كان الأقرب هو أنه دعـا إلى المهدي والذي اعتقد العلويون أنه الثاني عشر مـن الأئمة، ممـا يفسر سعي السلطة العباسية الحثيث للتأكد من وجود أي طفل للحسن بن علي يصلح لمنصب الإمامة، لقد اعتاد العباسيون عموماً التشكيك في نسب العلويين الثائرين عليهم، وهو ما حدث للأدارسة، والفاطميين، وما حدث أيضاً لصاحب الزنج الذي جرى تشويه ثورته بقدر ما سببته من إزعاج للعباسيين.
إن الجانب المذهبي لم يكن ثانوياً في هذه الثورات المُطالبة بتطبيق الشعارات الإسلامية في العدل الاجتماعي والمساواة، وبالتالي فقد كان يجب صياغة هذه المطالب والاستدلال عليها بالآيات القرآنية والسنة النبوية وممارسات الصحابة الأوائل، والتي تعني بداهة اعتناق الثوار لمذهب عقائدي يواجه مذهب وفقهاء الدولة، وتصور التئام كل المستضعفين بمختلف انتماءاتهم المذهبية تحت راية زعيم واحد يعد مثالياً بالنسبة لهذه المرحلة التي كانت السيادة فيها للفكر الديني، فمما تشترك فيه الثورات عموماً أن زعمائها يستمرون فترة قبل الإعلان عنها يدعون لمذهبهم سراً بين العوام والكادحين الأمر الذي يؤكد التلازم ما بين الثورة وعقيدتها الدينية والتي تعبر أيضاً بصورة ضمنية عن مصالح طبقة معينة كما أشرت سابقاً.
لقد احتوى الكتاب إضافة إلى القواعد السابقة على مناقشة لبعض التساؤلات التاريخية والتي ما زالت محل بحث ودراسة الكثير من المتخصصين، وخاصة في الفصلين الأخيرين، الذين خصصهما د.محمود إسماعيل لبحث وضع مصر من المد الثوري في التاريخ الإسلامي، والإنتاج الأدبي والإبداعي للمهمشين، وقد أنتج هذا البحث آراءً مهمة سواء من ناحية النظرية أو التطبيق، وعلى الرغم من أن التوصل إلى نتائج حاسمة في هذين المبحثين يحمل الكثير من الصعوبة، فإن طرح د. محمود إسماعيل هذين المبحثين للمناقشة يمثل بكل تأكيد أحد عناصر التميز في هذا الكتاب.
! في الفصل قبل الأخير المعنون " حرافيش مصر والنضال باللسان " من الكتاب ناقش د. محمود إسماعيل الانتفاضات الاجتماعية في مصر، حيث تساءل عن سر إحجام المصريين عن النضال المسلح في صورته الثورية ؟!، وقد فسر الدكتور محمود إسماعيل هذه الظاهرة إلى أسباب " جغرا – تاريخية " فحواها كون المجتمع المصري أساساً مجتمعاً زراعياً بامتياز، ومعلوم أن سيكولوجية الفلاح –المستمدة من طبيعة عمله – تجعل منه " تواكلياً " " قدرياً " " زاهداً " في متع الحياة، أو بالأحرى تجعل من الفلاحين احتياطاً تعبوياً للنظام القائم، حسب القاعدة الماركسية المعروفة.
إن التجارب الثورية والتي سبق وأن ذكرتها كالثورة السربدارية، وثورة السادات في إيران إضافة إلى الثورات الأخرى كالقرامطة اعتمدت بالأساس على الفلاحين وقد نجحت في تأسيس كيانات سياسية استمرت لفترات متباينة، وأخيراً فقد أثبتت الثورات الشيوعية في القرن العشرين كالثورة الصينية، والثورة الكورية واللتان اعتمدتا بالأساس على الفلاحين مدى خطأ هذه القاعدة، وهنا أشير إلى تجربة ثورية قام بها الفلاحون في منطقة " خونان " الصينية سنة 1927، وقد كتب " ماو تسي تونج " تقريراً عن هذه التجربة للتدليل على أهمية مسألة الفلاحين، ففي هذه التجربة حطمت اتحادات الفلاحين والتي ضمت ما يزيد عن مليوني فلاح امتيازات الوجهاء المحليين، واستطاعت القيام بـ 14 إنجاز ثوري - على حد تعبير ماو تسي تونج – لعل أهمها الإطاحة بحكـم الإقطاعيين، وتأسيس قوات مسلحة مـن الفلاحين، وعلى المستوى الاجتماعي استطاعت القضاء على العشائرية كبناء اجتماعي، والسلطان الديني لآلهة المدن وسيطرة الأزواج على الزوجات، والقيام بإصلاح السدود وبناء الطرق، فالمشكلة إذن ليست في الفلاحين.
ومع ذلك يبقى التساؤل حول السبب في اختلاف أساليب نضال الشعب المصري عن هذه الشعوب رغم عوامل التشابه السابقة ؟! إن الأسباب لا ترجع إلى طبيعة الشعب المصري، فقد شهدت مصر العديد من الثورات والتي تنوعت في انتماءاتها ما بين القبطية، والشيعية، والخارجية، والأموية، ولعل أكثرها عنفاً تلك التي قامـت في عهد المأمون سنة 216 هـ ولجأ الخليفـة العباسي للتوحش من أجل القضاء عليها، وربما كانت هذه الثورة من أعنف الثورات التي قامت في وجه العباسيين، كما قامت ثورة أخرى ذات ملامح شيعية في سنة 252 هـ، وكانت بنفس ضخامة الثورة السابقة، وكبدت الخلافة العباسية الكثير من الخسائر، وقد أحجمت المرويات التاريخية عن الاسترسال في ذكر أحداث انتفاضات أخرى بدون سبب واضح إلا أن يكون كما ذكرت سابقاً مرتبطاً بخضوع هذه المرويات لرقابة السلطة العباسية.
إن عدم قدرة أي من هذه الثورات على النجاح يرجع إلى ثلاثة أسباب أولهم : الطبيعة الجغرافية لمصر سواء من ناحية الأرض أو الانتشار السكاني، حيث يتركز التواجد السكاني حول شريط وادي النيل الذي يتميز عموماً بعدم وعورة أراضية، في حين يكاد ينعدم في المناطق الأخرى من مساحتها الكلية، وبالتالي فقد تمكنت السلطات الحكومية (أموية / عباسية) من فرض سيطرتها بسهولة على المصريين، كما مكّنها ضيق مساحة التواجد السكاني من القدرة على مراقبة تحركات المعارضة ثم التعامل معها والسيطرة عليها مبكراً قبل اتخاذها الخطوات اللازمة لقيام الثورة، وفي أحيان أخرى وبسبب ضعف الأجهزة الأمنية كان الثوار يتمكنون من إنجاح تحركهم الثوري، وهي المرحلة التي تليها المواجهة العسكرية مع جيوش الخلافة، وفي الغالب كانت هذه المواجهات لا تنتهي لصالح الثوار، ففرص التحصن أو المناورة مع هذه الجيوش ذات الإمكانيات والاستعدادات الضخمة معدومة بسبب افتقاد الطبيعة المصرية للظواهر الجغرافية المساعدة، والتي سمحت لثورات أخرى بالبقاء لفترات طويلة، فقد كانت وعورة جبل البدين والذي أقيمت عليه مدينة " البُذْ "، السبب الرئيسي في صمود الثورة البابكية، كما أن وعورة الطبيعة الجغرافية للمغرب كانت من عوامل صمود حركات الخوارج في جبل نفوسة، وإقليم تافيللت، وهي نفس عوامل بقاء الإسماعيلية والعلويين في الشام حتى الآن رغم عصور الاضطهاد الطويلة التي مارسها ضدهم الأيوبيون والمماليك والعثمانيون، وقد أدركت الحركات الخارجية في مصر هذه الحقيقة فاستغلت وعورة الطرق ما بين وادي النيل والواحات المصرية واستقرت في تلك الواحات بعيداً عن رقابة الحكومات الأموية والعباسية.
السبب الثاني يرتبط بالأيدلوجيات الدينية التي اعتنقها المصريون حيث حرص كل من الأيوبيين والمماليك على إبعاد أي أيدلوجية ثورية من الممكن أن تمثل تهديداً لوجودهم، واستخدموا في سبيل ذلك كل الوسائل، إلى درجـة صدور قرارات بمنـع تدريس قصائد الشعراء الموالين لآل البيت فـي الكتاتيب والمدارس الدينية، كما أصدر السلطان المملوكي قلاوون قراراً بتحريم اعتناق أي مذهب سوى مذاهب السنة الأربعة، وقد أدت هذه السياسة المتطرفة إلى القضاء على التنوع المذهبي والفكري في مصر والذي مثل الأرض الخصبة لإنتاج أي حالة ثورية في المناطق الإسلامية الأخرى، وأصبحت الحالة الدينية في مصر تحت سيطرة فقهاء السلطة والذين ساهموا إلى حد كبير في تدعيم الحكم الأيوبي والمملوكي ومنحهما الغطاء الديني لكل ممارساتهما.
أما السبب الثالث، والذي ساعد سلاطين هاتين الدولتين على تنفيذ سياساتهم، قلة القبائل العربية المهاجرة لمصر من ناحية العدد إذا ما قورنت بمثيلاتها في العراق وإيران والشام، وهي القاعدة الأولى التي نشأت داخلها الانتماءات المذهبية، حيث كان التشيع أكثر انتشاراً في أوساط اليمنيين والعبد قيسيين، في حين انتشر الخوارج في أوساط بني تميم وبكر، في مقابل تأخر الأقباط نسبياً في اعتناق الإسلام وبالتالي تأخر إقبالهم على اعتناق هذه المذاهب بتنوعاتها العقائدية، يضاف إلى ذلك إصرار الحكومات المتتالية على عدم الاعتماد على العنصر المصري في الجيش، ففي العصر الأموي كان الاعتماد على العنصر العربي هو الأساس، أما في العصر العباسي فقد اعتمدوا على العناصر التركية والفارسية، والزنجية، وهو ما سمح للفرق العسكرية الأجنبية والتي كانت موالية تماماً لسلاطين الدولتين بتنفيذ هذه السياسة بنجاح دون معارضة تذكر، في حين فشلت في الأقاليم الشامية التي كانت تحت سيطرة الأيوبيين والمماليك، ومازالت تعيش هذا التنوع المذهبي.
إن كثافة القبائل العربية في العراق وإيران – على سبيل المثال - ساهم في سرعة اعتناق الفرس للإسلام وبالتالي تأثيرهم القوي في أوضاع الدولة سلباً وإيجاباً، وانتشار الحركات الثورية المعارضة القائمة على العقائد الدينية، كالتشيع والإرجاء والاعتزال في أوساطهم، ورغم محاولات الأمويون القضاء على هذا التنوع المذهبي فإن تبني القبائل العربية لهذه العقائد أفشل خطط الأمويين خاصة أن هذه القبائل كانت تمثل الركيزة الأساسية في الجيش الأموي وبالتالي فهي تملك السلاح والقدرة القتالية، وفي العصر العباسي والذي اعتمد أكثر على العنصر التركي والفارسي في الجيش امتلكت هذه العناصر نفس القدرات العسكرية والنفوذ، وهي المميزات التي حُرم منها العنصر القبطي بلا سبب واضح سوى إبقاء هذا العنصر بجوار الأراضي الزراعية.
! في الفصل الأخير من الكتاب أشار الدكتور محمود إسماعيل إلى ثقافة المهمشين ، وقد استعرض في هذا الفصل الوسائل الثقافية التي استخدمها المهمشون في صراعهم الطبقي مع السلطة الإقطاعية، إلا أن د. محمود إسماعيل اكتفى بعرض صور هذه الثقافة دون نقد لها، ربما لأن الغرض من الفصل أساساً هو إثبات أن ثقافة العوام " لا تخلو من إبداع، بما ينفي الاتهام الشائع بجدب ثقافة العوام والمهمشين " ولا جدال في اتفاقي مع د. محمود إسماعيل في هذه النقطة، إلا أن الملاحظ في ثقافة العوام، وعلى الأخص السيّر الشعبية، أنها تُسقط تصوراتها البطولية على الشخصيات التاريخية دون انتقاء محدد، وهذا العنصر تشترك فيه الثقافة الشعبية في العالم الإسلامي عموماً، في مصر أوجد المصريون سيراً شعبية لكل من الإمام علي بن أبي طالب، والظاهر بيبرس، وربمـا كان من المفهوم الإعجاب بعلي بن أبي طالب كشخصية صحابية وتمتلك تراثاً كفاحياً كبيراً بالإضافة لانحيازه المشهور للطبقات الكادحة، لكن من غير المفهوم هذا التصوير الإيجابي الغريب للظاهر بيبرس وهو المؤسس الفعلي للحكم المملوكي بكل مساوئه وسلبياته التي عانى منها المهمشون، ونفس هذه الظاهرة توجد في الأدب الشعبي الإيراني حيث يلاحظ مدى اهتمام الإيرانيين بشخصية الإسكندر الأكبر على الرغم من أنه الشخصية التي حطمت الإمبراطورية الفارسية القديمة، إلا أن الحكايات الشعبية تشير إليه دائماً بإيجابية إلى درجة تصويره في بعض هذه الحكايات كشيعـي ينادي بولاية علي بن أبي طالب، ويبدو أن معظم هذه السير الشعبية على الرغم من دلالاتها الاجتماعية لم تكن تمثل أكثر مـن مجالات للترفيه بأسلوب مشوق يقبله العامة، وقد استخدمت للتخدير أكثر منها كوسيلة للتوعية والتثوير، فالملاحظ في سير الإمام علي – على سبيل المثال – خلطها ما بين البطولة العسكرية، الكفاحية والخرافة، وهما العنصرين الأكثر تشويقاً بين العامة عموماً، وهذان العنصران يمثلان عاملاً مشتركاً بين معظم هذه السير، وذلك بعكس وسائل أخرى كالمقامات والتي كانت تمثل سخرية لاذعة من الأوضاع الاجتماعية القائمة.
أخيراً .. يبقى كتاب " المهمشون في التاريخ الإسلامي "، للدكتور محمود إسماعيل مبادرة مهمة كانت تحتاجها الساحة الثقافية المصرية والتي تعاني من الأمية في هذا المجال، وإضافة لمشروع د.محمود إسماعيل حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، واكتشاف حقيقة أوضاع العوام بصفة عامة وتاريخهم وممارساتهم الثقافية والسياسية، بعد أن تعمّد المؤرخين القدامى استخدام التاريخ كوسيلة دعاية للسلطة القائمة واختزاله في سرد البطولات العسكرية والسياسية للحكام، وتلفيق الاتهامات والشائعات ضد خصومهم.